لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآية الثّانية تصف الله الذي نزل الفرقان بأربع صفات، صفة منها هي الأساس، والبقية نتائج وفروع لها، فتقول أوّلا: (الذي له ملك السموات والأرض) (3). نعم، إنّه الحاكم على كل عالم الوجود، وكل السماوات والأرض، فلا شيء خارج عن سلطة حكومته، وبالإلتفات إلى تقدم "له" على "ملك السموات" الذي هو دليل الحصر في اللغة العربية يستفاد أن الحكومة الواقعية والحاكمية المطلقة في السماوات والأرض منحصرة به تبارك وتعالى، ذلك لأن حكومته عامّة وخالدة وواقعية، بخلاف حاكمية غيره التي هي جزئية ومتزلزلة. وفي نفس الوقت فهي مرتبطة به سبحانه. ثمّ يتناول تفنيد عقائد المشركين واحدة بعد الأُخرى، فيقول تعالى: (ولم يتخذ ولداً) (4). و كما قلنا من قبل فإن الحاجة إلى الولد من حيث الأصل إمّا لأجل الإستفادة من طاقته البشرية في الأعمال، أو لأجل الإستعانة به حال الضعف والعجز والشيخوخة، أو لأجل الإستئناس به في حال الوحدة، ومن المعلوم أن ذاته المقدسة عزَّوجلّ منزّهة عن أي واحد من تلك الإحتياجات. وبهذا الترتيب، يدحض اعتقاد النصارى بأنّ "المسيح"(ع) ابن الله، أو ما يعتقده اليهود أنّ "العزير" ابن الله، وكذلك يدحض اعتقاد مشركي العرب، ثمّ يضيف جل ذكره: (ولم يكن له شريك في الملك). فإذا كان لمشركي العرب اعتقاد بوجود الشريك أو الشركاء، ويتوهمونهم شركاء لله في العبادة، ويتوسلون بهم من أجل الشفاعة، ويسألونهم المعونة لقضاء حوائجهم، حتى آل بهم الأمر أنّهم كانوا يقولون بصراحة - حين التلبية للحج - جملا قبيحة ملوثة بالشرك، مثل: "لبيك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك". فإنّ القرآن يدين ويدحض كل هذه الأوهام. و يقول تعالى في العبارة الأخيرة: (وخلق كلَّ شيء فقدّره تقديراً). ليس كمثل اعتقاد الثنويين الذين يعتقدون بأن قسماً من موجودات هذا العالم مخلوقات "الله"، وأن قسماً منها مخلوقات "الشيطان". و بهذا الترتيب كانوا يقسمون الخلق والخلقة بين الله والشيطان، ذلك لأنّهم كانوا يتوهمون الدنيا مجموعة من "الخير" و "الشر"، والحال ألاّ شيء في عالم الوجود إلاّ الخير من وجهة نظر الموحد الحق. فإذا رأينا شرّاً، فإمّا أن يكون ذا جنبة "نسبية" أو "عدمية"، أو أن يكون نتيجة لأعمالنا (فتأمل)!. بحث تقدير الموجودات بدقة: ليس نظام العالم الدقيق والمتقن - وحده - من الدلائل المحكمة على معرفة الله وتوحيده، فتقديراته الدقيقة أيضاً دليل واضح آخر، أنّنا لا يمكن أن نعتبر مقادير موجودات هذا العالم المختلفة، وكميتها وكيفيتها المحسوبة، معلولة للصدفة التي لا تتوافق مع حساب الإحتمالات. و قد تقصّى العلماء الأمر في هذا الصدد، وأزاحوا الستار عن أسراره المدهشة التي تذهل فكر الانسان، وتترك لسانه يترنم بتمجيد عظمة وقدرة الخالق بلا اختيار. و نعرض لكم - ها هنا - جانباً من ذلك: يقول العلماء: لو كانت قشرة الأرض أسمك ممّا هي عليه الآن بمقدار بضعة أقدام، لما وجد غاز "الاوكسجين" الذي يعتبر المادة الاصلية للحياة، ولو كانت البحار أعمق من عمقها الفعلي عدّة أقدام لا متصت جميع ما في الجو من الكاربون و الاوكسجين، ولما امكن وجود حياة لحيوان ونبات على سطح الارض، ويحتمل أن تقوم قشرة الأرض والبحار بامتصاص كل الأوكسجين، وكان على الانسان أن ينتظر نمو النباتات التي تلفظ الأوكسجين. وطبقاً للحسابات الدقيقة في هذا المجال يتّضح أنّ للأوكسجين مصادر مختلفة، ولكن مهما كان مصدره فإنّ كميته مطابقة لاحتياجاتنا بالضبط. ولو كانت طبقة الغلاف الجوي أرق ممّا هي عليه الآن ممّا هو، فإنّ بعض الشهب التي تحترق كل يوم بالملايين في الهواء الخارجي، كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثّانية، وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للإحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض ولكانت العاقبة مروعة، ولو تعرض الأنسان للاصطدام بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة، لتحول الى رماد لمجرّد حرارته. الغلاف الجوي سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيموي التي يحتاج إليها الزرع والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات، دون أن تضر بالإنسان، إلاّ إذا عرّض نفسه لها مدة أطول من اللازم. وعلى الرغم من الإنبعاثات الغازية من اعماق الأرض طول الدهور، ومعظمها سام، فإنّ الهواء باق دون تلوث في الواقع، ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان. إنّ الجهاز الذي يقوم بهذه الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء، أى البحار والمحيطات التي هي مصدر الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل، وأخيراً استمد الإنسان نفسه جميع تلك المقومات الحيوية منهما، فدع من يدرك ذلك يقف في روعة أمام عظمته تعالى، ويقرُّ بواجباته شاكراً! إنّ التعادل العجيب بين الأوكسجين وثاني أوكسيد الكاربون فيما يتعلق بالحياة الحيوانية، وعالم النبات كلّه، قد استرعت أنظار كل العالم المفكر، غير أن أهمية ثاني أوكسيد الكاربون لم يدركها الجميع بعد، وثاني أوكسيد الكاربون هو الغاز المألوف في تعبئة ماء الصودا، وهوغاز ثقيل، ولحسن الحظ يعلق بالأرض، و لايتمّ فصله إلى أوكسجين وكاربون إلاّ بصعوبة كبيرة، وإذا أشعلت ناراً، فإنّ الخشب - الذي يتكون غالباً من الأوكسجين والكاربون والهيدروجين - يتحلل تحت تأثير الحرارة ويتحد الكاربون مع الأوكسجين بشدّة، وينتج من ذلك ثاني أوكسيد الكاربون. والهيدروجين الذي يطلق يتحد بمثل تلك الشدة مع الأوكسجين فنحصل على بخار الماء. ومعظم الدخان هو كاربون خالص غير متحد مع غيره. وحين يتنفس رجل فإنّه يستنشق الأوكسجين فيتلقاه الدم، ويقوم بتوزيعه الى جميع انحاء جسمه، ويقوم هذا الأكسجين يحرق طعامه في كل خلية ببطء شديد عند درجة حرارة واطئة نسبياً، النتيجة هي ثاني أوكسيد الكاربون وبخار الماء. و بذلك يتسلل ثاني أوكسيد الكاربون إلى رئتيه، ويعود الى الجو مرّة اُخرى من خلال الزفير، وكلّ كائن حيواني حي يمتص الاوكسجين ويلفظ ثاني اوكسيد الكاربون. ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان - مهما يكن من وحشيته، أو ضخامته، أو مكره - من السيطرة على العالم غير أنّ الإنسان وحده بامكانه قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر، وسرعان ما يلقى جزاءه القاسي على ذلك ماثلا في تطورات آفات الحيوان والحشرات والنبات. والواقعة الآتية مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الإنسان، فمنذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبّار (الكاكتوس) في أستراليا كسياج وقائي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطي مساحة تقرب من مساحة إنجلترا، وزاحم أهالي المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحال دون الزراعة، ولم يجد الأهالي وسيلة لصده عن الإنتشار، وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع الصامت، يتقدم في سبيله دون عائق! وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيراً حشرة لا تعيش إلاّ على ذلك الصبار ولا تتغذى بغيره، وهي سريعة الإنتشار وليس لها عدو يعوقها في أستراليا. وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبّار، ثمّ تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية، تكفي لصد الصبّار عن الأنتشار إلى الابدّ. وهكذا توافرت الضوابط والموازين، وكانت دائماً مجدية. ولماذا لم تسيطر بعوضة الملاريا على العالم وتقتل بذلك النوع البشري مع أن البعوض متوفر في جميع انحاء العالم حتى في القطبين؟ ومثل ذلك أيضاً يمكن أن يقال عن بعوضة الحمى الصفراء التي تقدمت شمالا في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك. و لماذا لم تتطور ذبابة "تسي تسي" "الذبابة المنومة" حتى تستطيع أن تعيش في غير مناطقها الحارة، وتمحو الجنس البشري من الوجود؟ يكفي أن يذكر الإنسان الطاعون والأوبئة والجراثيم الفتاكة التي لم يكن منها وقاء حتى الأمس القريب، وأن يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصحية، ليعلم أن بقاء الجنس البشري معها يدعو حقاً إلى الدهشة!(5). ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾ كما زعم النصارى أو غيرهم ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾ كزعم بعض الوثنية والثنوية ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ أوجده على تقدير وتسوية ﴿فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ فهيأه لما يصلح له في الدين والدنيا أو فقدره للبقاء إلى أجل مسمى.