وتتطرق الآيتين التاليتين إلى طريقة عمل المطففين، فتقول الآية الاُولى: (الذين إذا اكتالوا على النّاس يستوفون) (4).
وتقول الآية الثّانية: (إذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون) وذهب جمع من المفسّرين إلى أنّ الآية أرادت بـ "المطفف" مَن يأخذ عند الشراء أكثر من حقّه، ويعطي عند البيع أقل من الحقّ الذي عليه، والـ "ويل" إنّما جاء بلحاظ هاتين الجهتين.
ولكن ما ذهب أُولئك المفسّرون غير صحيح، بدلالة "يستوفون" التي تعني أخذهم بالكامل، وليس ثمّة ما يدلّ على أخذهم أكثر من حقّهم، ويمكننا توجيه (الذم) الحاصل، باعتبار أخذهم حقّهم كاملاً عند الشراء، وينقصون من حقّ الآخرين عند البيع، كمن يريد أن يذم شخصاً بقوله: ما أغربك من رجل، تراك تأتي في الموعد المقرر عندما تكون دائناً، وتتهرب من أداء ما عليك عندما تكون مديناً.
فأخذ الحقّ في موعده المقرر ليس عملاً سيّئاً، ولكن حصول الحالتين (أعلاه) في شخص واحد هو الشيء.
وقد جاء ذكر "الكيل" في الآيتين عند حالة الشراء، وذكر "الكيل" و"الوزن" عند حالة البيع، وربّما يرجع ذلك لأحد سببين:
الأوّل: كان تجار تلك الأزمان الكبار يستعملون (المكيال) عند شرائهم للكميات الكبيرة من المواد، لأنّه لم يكن عندهم ميزان كبير يستوعب تلك المواد الكثيرة. (وقيل: إنّ (الكُر)، كان في الأصل إسماً لمكيال كبير... والكُر: مصطلح يستعمل لقياس سعة الماء).
أمّا في حالة البيع، فكانوا يكيلون لبيع الجملة، ويزنون لبيع المفرد.
الثّاني: إنّهم كانوا يفضلون استعمال المكيال عند الشراء، لصعوبة الغش فيه، ويستغلون الميزان عند البيع لسهولة الغش فيه!
وممّا ينبغي الإلتفات إليه...إنّ الآيات وإن تحدثت عن التطفيف في الكيل والوزن، ولكن، لاينبغي حصر مفهومها بهما، فالتطفيف يشمل حتى العدد، وليس من البعيد أن تكون الآيات قد أشارت إلى إنقاص ما يؤدي من خدمة مقابل أجر، كما لو سرق العامل أو الموظف من وقت عمله، فإنّه والحال هذه سيكون في حظيرة "المطففين" المذمومين بشدّة في الآيات المباركة المذكورة.
ويتوسع البعض في مفهوم الآية أكثر وأكثر حتى يجعل أيّ تجاوز لحدود اللّه، وأيّ إنقاص أو اخلال في الروابط الإجتماعية أو إنحلال في الضوابط الأخلاقية، إنّما هو مفردات ومصاديق لهذا المفهوم.
ومع أنّ ظاهر ألفاظ الآية لا يرمز إلى هذه المعاني، ولكنّها لا تخلو من مناسبة.
ولذا، فقد ورد عن ابن عباس، أنّه قال: (الصلاة مكيال، فمن وفى، وفى اللّه له، ومَن طفف، قد سمعتم ما قال اللّه في المطففين) (5).
﴿وإذا كالوهم أو وزنوهم﴾ أي كالوا للناس أو وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل وقيل هم تأكيد ﴿يخسرون﴾ ينقصون.