الآية الأخيرة مورد البحث - كالآية التي قبلها - توجه خطابها إلى النّبي(ص) على سبيل تحقير مقولات أُولئك، وأنّها لا تستحق الإِجابة عليها، يقول تعالى: (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً).
و إلاّ، فهل أحدٌ غير الله أعطى الآخرين القصور والبساتين؟ من غير الله خلق جميع هذه النعم والجمال في هذا العالم؟ تُرى أيستحيل على الله القادر المنّان أن يجعل لك أفضل من هذه القصور البساتين؟!
لكنّه لا يريد أبداً أن يعتقد الناس أن مكانتك مردُّها المال والثروة والقصور، ويكونوا غافلين عن القيم الواقعية. إنه يريد أن تكون حياتك كالأفراد العاديين والمستضعفين والمحرومين، حتى يمكنك أن تكون ملاذاً لجميع هؤلاء ولعموم الناس.
أمّا لماذا يقول قصوراً وبساتين أفضل ممّا أراده أُولئك؟ فلأن "الكنز" وحده ليس حلاّل المشاكل، بل ينبغي بعد مزيد عناء أن يستبدل بالقصور والبساتين، مضافاً الى أنّهم كانوا يقولون: ليكن لك بستان يؤمن معيشتك، أمّا القرآن فيقول: إن الله قادر على أن يجعل لك قصوراً وبساتين، لكن الهدف من بعثتك ورسالتك شيء آخر.
ورد في "الخطبة القاصعه" من "نهج البلاغة" بيان معبر وبليغ: هنالك حيث يقول الإِمام(ع):
"... ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون(ع) على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي فشرطا له إنْ أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه فقال: "ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل، فهلاّ أُلقي عليهما أساورة من ذهب، إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه. ولو أراد اللّه سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذُهبان، ومعادان العقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل، ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء، واضمحلت الأنباء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الأسماء معانيها، ولكن الله سبحانه جعل رسله اُولي قوّة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنىً، وخصاصة تملأ الأبصار و الأسماع أذىً.
و لو كانت الأنبياء أهل قوة لا تُرام وعزّة لا تُضام، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال، وتِشدُّ إليه عُقد الرحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الإِعتبار وأبعد لهم في الإِستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيّاتُ مشتركة والحسنات مقتسمة، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الإتباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه والإِستكانة لأمره والإِستسلام لطاعته، أموراً له خاصّة لا تشوبها من غيرها شائبة. وكلما كانت البلوى والإِختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل".(3)
و الجدير بالذكر أنّ البعض يرى بأنّ المراد بالجنّة والقصور، جنّة الآخرة قصورها، لكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية بأي وجه.(4)
﴿تَبَارَكَ﴾ تكاثر خير ﴿الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ﴾ في الدنيا ﴿خَيْرًا مِّن ذَلِكَ﴾ مما قالوا ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا﴾.