لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
إنّ درك الحقائق يتمّ أوّلاً بالعين واللسان... ولذلك تقدم ذكرهما في السياق... ثمّ تبع ذلك ذكر الهداية، الهداية العقلية والفطرية (وهديناه النجدين)، ويشمل التعبير أيضاً "الهداية التشريعية" التي ينهض بمسؤوليتها الأنبياء والأولياء. نعم... لقد أنعم اللّه على الإنسان بالبصر والبصيرة، وأنعم عليه بهداية الإرشاد إلى الطريق والتحذير من مغبة الإنحراف عنه، كي تكتمل الحجّة على الإنسان. ومع كلّ هذه النعم، نعم الهداية، لو انحرف الإنسان عن جادة الحقّ، فلا يلومنّ إلاّ نفسه. عبارة (وهديناه النجدين) إضافة لما لها من مدلول على مسألة الإختيار وحرية الإنسان، تدلّ أيضاً على ما يتطلبه طريق الخير من جهد وعناء، لأنّ "النجد" مكان مرتفع وتسلق المكان المرتفع يتطلب كداً وسعياً وجهداً، غير أن طريق الشرّ له مشاكله ومصاعبه أيضاً، فأولى بالإنسان أن يبذل الجهد والسعي على طريق الخير. مع ذلك، فانتخاب الطريق بيد الإنسان... الإنسان هو الذي يتحكم في عينه ولسانه فيم يستعملها... في الحلال أو الحرام، وهو الذي يختار إحدى الجادتين "الخير" أو "الشر". وفي الحديث القدسي أن اللّة سبحانه يخاطب أبناء آدم يقول: "يا ابن آدم إنّ نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فاطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فاطبق..." (2). فاللّه سبحانه منح هذه النعم، ومنح وسائل السيطرة عليها، وتلك من الألطاف الإلهية الكبرى. والملفت للنظر أنّ الآيات التي نحن بصددها أشارت إلى الشفتين بعد اللسان، ولكن لم تشر إلى الجفنين بعد ذكر العين، ولعل ذلك يعود إلى أهمية الشفتين في الكلام والطعام وغيرها من الاُمور أهمية تفوق بكثير أهمية الجفنين، وقد يعود أيضاً إلى أن السيطرة على اللسان أهم وأخطر بكثير من السيطرة على العين. بحوث: 1 - عجائب العين العين يشبهونها عادة بآلة التصوير (الكاميرا)، فهي تلتقط الصور من عدستها الدقيقة، بدلاً من أن تعكسها على اللوح الحساس (الفيلم) كما تفعل الكاميرا، تعكس الصور على شبكية العين، ومن ثمّ تنتقل عن طريق الأعصاب البصرية إلى الدماغ. آلة التصوير الدقيقة الظريفة هذه قد تلتقط يومياً ملايين الصور، غير أنّها من جهات مختلفة لا يمكن مقارنتها حتى بأعقد وأحدث أجهزة التصوير، لأنّه: 1 - فتحة تنظيم النور (ديافراغم) في جهاز العين، وهو بؤبؤ العين، يعمل بشكل تلقائي أمام تغيير النور، فيتقلص أمام النور القوي، ويتسع أمام النور الضعيف، بينما أجهزة التصوير بحاجة إلى تنظيم بيد المصور. 2 - عدسة العين خلافاً لأنواع عدسات أجهزة التصوير تتغير بتغير بعد الصورة عنها، فيكون قطرها حيناً 5،1 ملم، ويصل أحياناً إلى 8 ملم، وهذا التغيير يتمّ بواسطة عضلات تتقلص وتنبسط حسب بُعد الصورة المرئية، فعدسة العين تستطيع أن تعمل ما تعمله مئات العدسات الزجاجية. 3 - العين تستطيع أن تتحرك في الجهات الأربع بمساعدة العضلات وتلتقط الصور في الإنحاء المختلفة. 4 - والمهم، أن أجهزة التصوير بحاجة إلى تبديل أفلامها، فإذا انتهت حلقة فيلم، فلابدّ من فيلم آخر. لكن عين الإنسان تلتقط الصور طوال عمر الإنسان دون أن تحتاج إلى تعويض شيء، ويعود السبب إلى أن الشبكية التي تنعكس عليها الصور تحتوي على نوعين من الخلايا "المخروطية"، و"الإسطوانية" فيها مادة حساسة للغاية تجاه النور تتحلل بأقل شعاع من نور في الشبكية وتتحول إلى أمواج تنتقل إلى الدماغ، ثمّ يزول الأثر وتستعد الشبكية لإلتقاط صور جديدة. 5 - أجهزة التصوير مصنعة من مواد قويّة جدّاً، لكن جهاز العين لطيف وظريف إلى درجة كبيرة، لذلك وضع في محفظة عظيمة مستحكمة، والعين مع ظرافتها ولطافتها أكثر دواماً بكثير من الحديد والفولاذ. 6 - مسألة تنظيم النور ذات أهمية فائقة للمصورين، وقد يطول الزمن بالمصور كي يستطيع تنظيم إضاءة الصورة، بينما تستطيع العين في جميع ظروف النور القوي والمتوسط والضعيف بل حتى في الظلام شريطة وجود بصيص من النور أن تلتقط الصور، وهذا من عجائب العين. 7 - حين ننتقل فجأة من النور إلى الظلمة، أو حين تنطفيء مصابيح الغرفة في الليل، لا تستطيع أعيننا في البرهة الاُولى أن ترى شيئاً، ثمّ بالتدريج تعتاد العين على الظرف الجديد فترى ما حولها، وهذا التعوّد هو تعبير بسيط عن التحول المعقد الذي يحدث في العين، ويؤدي خلال لحظات بسيطة إلى الإنسجام بين العين والظروف الجديدة. وعكس ذلك يحدث عندما ننتقل من الظلام إلى النور، فالعين في البداية لا تتحمل النور القوي، ولكن بعد لحظات تتواءم مع الظرف الجديد، ومثل هذه الخصائص لا توجد اطلاقاً في أجهزة التصوير. 8 - أجهزة التصوير تستطيع أن تصور زاوية محدودة ممّا يقع أمامها، بينما عين الإنسان تستطيع أن تلتقط كلّ ما في نصف الدائرة الاُفقية أيامها بزاوية مقدارها 180 درجة تقريباً. 9 - من عجائب العينين أنّهما تلتقطان الصورة لتعكساها معاً في نقطة واحدة، وإذا اختل هذه التنظيم تصاب العين بالحول ويرى الفرد الشيء الواحد شيئين. 10 - ومن الطريف أن صورة الأجسام تنعكس على الشبكية مقلوبة، بينما لا نرى نحن الأشياء مقلوبة. 11 - سطح العين يجب أن يبقى رطباً دائماً، وإذا جفّ اضرّ بالعين كثيراً، وهذه الرطوبة تفرزها الغدد الدمعيّة، فتدخل العين من جانب وتخرج عن طريق قنوات دقيقة تقع في جانب من العين إلى الأنف، فترطب الأنف أيضاً. وإذا جفت الغدد الدمعية، تتعرض العين للخطر، وتتعذر حركة الأجفان، وإن زاد نشاط هذه الغدد أكثر من المطلوب يسيل الدمع باستمرار على الوجه، وإذا انسدّ طريق القنوات التي تدفع الدمع من العين إلى الأنف، فلابدّ للفرد أن ينشغل دائماً بتجفيف الماء المتصبب على وجهه. 12 - تركيب الدمع معقد فيه أكثر من عشرة عناصر تشكل معاً أفضل سائل للحفاظ على العيم. بعبارة موجزة عجائب العين من الكثرة بحيث تتطلب كتابة المجلدات الضخام، وليست هي أكثر من شحمة صغيرة، وحقّاً ما قاله أمير المؤمنين علي (ع) : "اعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم ويتكلم بلحم، ويسمع بعظم، ويتنفس من خرم" (3). 2 - عجائب اللسان اللسان بدوره من الأعضاء الهامة في بدن الإنسان، وينهض باعباء هامّة فهو عامل مهم في مضغ الطعام وبلعه، يدفع باللقمة إلى الأسنان ويلتقطتها دون أن يتعرض هو للقطع. وقد يحدث نادراً أن يقع اللسان في مصيدة الأسنان أثناء الأكل، فنستغيث من الألم، ونفهم عندئذ مدى مهارة اللسان في تجنب الإنزلاق تحت الأسنان مع أنّه ملاصق لها!! واللسان بعد ذلك ينظف جوف الفم والأسنان من بقايا الطعام. وأهم من ذلك، دور اللسان في الكلام بتحركه السريع المتواصل المنظم في الجهات الست، وهو دور عجيب، والإمعان فيه يثير الدهشة والحيرة فقد يسرّ اللّه تعالى للانسان وسيلة سهلة للتكلم وفي متناول الجميع فلا يصيبها تعب ولا نصب ولا ملل ولا تكلّف الإنسان خرجاً!! وأعجب من ذلك موضوع استعداد الإنسان للكلام، وهذا الإستعداد أودعه اللّه في الإنسان ليستطيع من خلال تكوين الجمل باشكال لا تعدّ ولا تحصى أن يبيّن ما لا نهاية له من الغايات. وأهم من ذلك أيضاً تنوّع اللغات وقابلية الإنسان على وضع لغات مختلفة، وتتّضح هذه الأهمية من خلال مطالعة مفردات آلاف اللغات المنتشرة في العالم... حقّاً "العظمة للّه الواحد القهار!". 3 - هداية النجدين "النجد" كما ذكرنا الإرتفاع أو الأرض المرتفعة، و"النجدين" هنا طريق الخير وطريق الشر، وورد في الحديث عن رسول اللّه (ص) قال: "يا أيّها النّاس! هما نجدان: نجد الخير ونجد الشرّ، فما جعل نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير". (4) تحمل "التكليف" والمسؤولية غير ممكن دون شك، بغير المعرفة والوعي وحسب هذه الآية فإنّ اللّه سبحانه منح الإنسان هذه المعرفة. وهذه المعرفة يحصل عليها الإنسان من ثلاثة طرق: من الإدراكات العقلية والإستدلال، ومن طريق الفطرة والوجدان دون الحاجة إلى الاستدلال، ومن طريق الوحي وتعاليم الأنبياء والأوصياء (ع)، وكل ما يحتاجه البشر ليطوي مسيرة تكامله قد بيّنه اللّه سبحانه له بواحد من هذه الطرق أو في كثير من الحالات بالطرق الثلاثة معاً. ويلاحظ أن الحديث المذكور يصرّح بأن نجد الشرّ ليس أحبّ إلى طبع الإنسان من نجد الخير، وهذا يردّ على القائلين بأن الإنسان مطبوع على الشرّ وإن سلوك طريق الشرّ أيسر له وأسهل. ومن المؤكّد أن البيئة الإجتماعية لو خلت من التربية الخاطئة والإنحرافات لوفرت الأجواء لرغبة متزايدة في الإنسان نحو الخير، ولعل تعبير "نجد" وهي الأرض المرتفعة لطريق الخير يعود إلى أن الأرض المرتفعة ذات هواء أنقى وجوّ أبهج، وإنّما اطلق النجد للشرور أيضاً من باب التغليب (5). وقيل أيضاً أنّ التعبير بالنجدين إشارة إلى ظهور طريقي الخير والشرّ وبروزهما، كبروز وظهور الأرض المرتفعة. ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ بينا له طريقي الخير والشر.