ثمّ يستمر ويقول: (لقد أضلني عن الذكر بعد إذجاءني).
لو كانت الفاصلة كبيرة بيني وبين الإيمان والسعادة الخالدة في الدنيا لم اكن آسف الى هذا الحد، ولكني كنت قاب قوسين أو أدنى من السعادة الدائمة فصدّني رفيق السوء هذا عن عين ماء الحياة ظامئاً وأغرقني في دوامة التعاسة.
"الذكر" في الجملة أعلاه، له معنىً واسع، ويشمل كل الآيات الإلهية التي نزلت في الكتب السماوية، بل يدخل في إطاره كلُّ ما يوجب يقظة ووعي الإنسان.
وفي ختام الآية يقول تعالى: (وكان الشيطان للإنسان خذولا) ذلك لأنّه يجر الإنسان إلى مواقع الخطر والطرق المنحرفة، ثمّ يتركه حيران ويذهب لسبيله، وينبغي الإنتباه إلى أنّ "خذولا" صيغة مبالغة، بمعنى كثير الخذلان.
وحقيقة الخذلان هي أي يعتمد الشخص على صديقه تمام الاعتماد، ولكن هذا الصديق يرفع يده عن مساعدته وإعانته تماماً في اللحظات الحساسة.
في هذه الجملة الأخيرة (وكان الشيطان للإنسان خذولا) قد تكون من مقولة الله تعالى على سبيل الإنذار لجميع الظالمين والظالين، أو تتمة لمقولة هؤلاء الأفراد المتحسرين في القيامة، ذكر المفسّرون تفسيرين، وكل منهما منسجم مع معنى الآية، غير أن كونها مقولة الله تعالى أكثر انسجاماً.
بحث
أثر الصديق في مصير الإِنسان:
لا شك في أن عوامل بناء شخصية الإِنسان - بعد عزمه وإرادته وتصميمه - أُمور مختلفة، من أهمها الجليس والصديق والمعاشر، ذلك لأنّ الإِنسان قابل للتأثر شاء أم أبى، فيأخذ قسطاً مهماً من أفكاره وصفاته الأخلاقية عن طريق أصدقائه، ولقد ثبتت هذه الحقيقة من الناحية العلمية وعن طريق التجربة والمشاهدات الحسية أيضاً.
قابلية التأثر هذه نالت اهتماماً خاصّاً لدى الإسلام إلى حدّ أنّه نقل في الرّوايات الإسلامية، عن نبيّ الله سليمان(ع) أنّه قال: "لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا إلى من يصاحب، فإنّما يعرف الرجل بأشكاله وأقرانه، وينسب إلى أصحابه وأخدانه".(4)
يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في خطبة له: "ومن اشتبه عليكم أمره ولم تعرفوا دينه، فانظروا إلى خلطائه، فإن كانوا أهل دين الله فهو على دين الله، وإن كانوا على غير دين الله، فلا حظّ له من دين الله".(5)
حقّاً، إنّ أثر الصديق في سعادة وشقاوة إنسان ما قد يكون من أهم العوامل أحياناً، فقد يؤدي به إلى دركات الشقاء الأبدي، وقد يرقى به أحياناً إلى غاية المجد.
الآيات الحالية وسبب نزولها، تبيّن - بوضوح - كيف أنّ الإنسان قد يقترب من السعادة، لكنّ وسوسة شيطانية واحدة من صديق سيء تقلبه رأساً على عقب وتقلب مصيره، حيث سيعضُّ على يديه من الحسرة يوم القيامة، وستتعالى منه صرخة "ياويلتى".
في كتاب "العِشرة" وردت روايات كثيرة في نفس هذا الموضوع، تبيّن أن الإسلام شديد ودقيق وثاقب النظرة في مسألة اختيار الصديق.
نُنهي هذا البحث القصير بنقل حديثين في هذا الموضوع، ومن أراد الإطلاع أكثر في هذا الموضوع فليراجع كتاب "العشرة" من بحار الأنوار، الجزء 74.
نقرأ في حديث عن التاسع من أئمة الإسلام العظام، الإمام محمد التقي الجواد(ع) "اِيّاك ومصاحبة الشرير، فإنه كالسيف المسلول، يحسن منظره ويقبح أثره".(6)
وقال الرّسول الأكرم(ص): "أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب... ومجالسة الموتى" قيل له: يا رسول الله، وما الموتى؟ قال: "كل غني مترف".(7)
﴿لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ﴾ القرآن أو موعظة الرسول ﴿بَعْدَ إِذْ جَاءنِي﴾ مع الرسول ﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ﴾ أي الخليل المضل أو إبليس أو كل متشيطن جني أو إنسي ﴿لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾ يسلمه إلى الهلاك ثم يتركه ولا ينفعه.