ثمّ يأتي ذكر النعمة الثّانية: (ووجدك ضالاً فهدى).
نعم، لم تكن أيّها النّبي على علم بالنبوّة والرسالة، ونحن أنزلنا هذا النور على قلبك لتهدي به الإنسانية، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى أيضاً: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا). (1)
واضح أنّ النّبي (ص) كان فاقداً لهذا الفيض الإلهي قبل وصوله مقام النبوّة، فاللّه سبحانه أخذ بيده وهداه وبلغ به هذا المقام، وإلى هذا تشير الآية (رقم 3) من سورة يوسف: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين).
من المؤكّد أنّه لولا الهداية الإلهية والإمداد الغيبي ما استطاع الرّسول (ص) أن يهتدي المسير نحو الهدف المقصود.
من هنا فإنّ المقصود من الضلالة في كلمة "ضالاً" في الآية ليس نفي الإيمان والتوحيد والطهر والتقوى عن النّبي، بل بقرينة الآيات التي أشرنا إليها تعني نفي العلم بأسرار النبوّة وبأحكام الإسلام، وتعني عدم معرفة هذه الحقائق، كما أكّد على ذلك كثير من المفسّرين.
لكنّه (ص) بعد البعثة اهتدى إلى هذه الاُمور بعون اللّه تعالى.
(تأمل بدقّة).
في الآية (282) من سورة البقرة، عند ذكر الشهادة وسبب استشهاد أكثر من شاهدة واحدة في كتابة عقود الدَّين يقول سبحانه: (أن تضلّ إحداهما فتذكر إحداهما الاُخرى).
والضلالة في هذه الآية تعني "النسيان" بقرينة قوله "فتذكر".
وفي الآية تفاسير اُخرى من ذلك.
إنّك كنت خامل الذكر غير معروف، واللّه أنعم عليك من المواهب الفريدة ممّا جعلك معروفاً في كلّ مكان.
ومن هذه التفاسير، إنّك تهت وضللت الطريق مرّات في عهد الطفولة (مرّة في شعاب مكّة حين كنت في حماية عبد المطلب، ومرّة حين كانت حليمة السعدية تأتي بك إلى مكّة لتسلمك إلى عبد المطلب فتهت في الطريق.
مرّة ثالثة حين كنت برفقة عمّك أبي طالب ضمن قافلة متجهة إلى الشام فضللت الطريق في ليلة ظلماء واللّه سبحانه هداك في كلّ هذه المرات وأعادك إلى حضن جدّك أو عمّك).
ويذكر أنّ كلمة "ضال" تعني "المفقود" وتعني "التائه".
ففي عبارة: "الحكمة ضالة المؤمن"، الضالة تعني الشيء المفقود.
ومن ذلك جاءت هذه المفردة أيضاً بمعنى المخفي والغائب ولذا ورد في الآية (10) من سورة السجدة قوله تعالى على لسان منكري المعاد: (أإذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد)، أي ءإذا غبنا واختفينا في بطن الأرض.
وإذا كانت كلمة "ضالاً" في الآية تعني "المفقود" فلا يبرز إشكال في الموضوع... ولكن إذا كانت بمعنى "التائه" فالمقصود منها عدم الإهتداء إلى طريق النبوّة والرسالة قبل البعثة، وبعبارة اُخرى لم يكن النّبي مالكاً لشيء في ذاته الوجودية
﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾ في الطريق حتى أتت بك حليمة إلى جدك أو في شعاب مكة أو في طريق الشام مع عمك أبي طالب ﴿فَهَدَى﴾ هداك إلى جدك أو عمك أو ضالا عن المعارف والعلوم فعلمك بالوحي.