ثمّ يتوالى التقريع لأهل الكتاب، ومن بعدهم للمشركين، لأنّهم اختلفوا في الدين الجديد، منهم مؤمن ومنهم كافر، بينما: (وما اُمروا إلاّ ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) (5).
ثمّ تضيف الآية القول:
(وذلك دين القيمة).
قيل في معنى "وما اُمروا..." أن المقصود هو: إنّ التوحيد والصلاة والزكاة من المسائل الثابتة في دين أهل الكتاب، لكنّهم لم يبقوا أوفياء لهذه التعاليم.
وقيل: المقصود هو إنّ دين الإسلام ليس فيه سوى التوحيد الخالص والصلاة والزكاة وأمثالها من التعاليم.
وهذه اُمور معروفة فلماذا يعرضون عنها؟.
يبدو أنّ المعنى الثّاني أقرب.
لأنّ الآية السابقة تتحدث عن الإختلاف في قبول الدين الجديد، والمناسب هنا أن يكون المراد في "اُمروا..." هو الدين الجديد أيضاً.
أضف إلى ذلك أنّ المعنى الأوّل يصدق على أهل الكتاب وحدهم، بينما المعنى الثّاني يشمل المشركين أيضاً.
المقصود بـ "الدين" في عبارة (مخلصين له الدين حنفاء) قد يكون "العبادة"، وعبارة "إلاّ ليعبدوا اللّه" في الآية تؤكّد هذا المعنى.
ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود مجموع الدين والشريعة، أي أنّهم اُمروا أن يعبدوا اللّه وأن يخلصوا له الدين والتشريع في جميع المجالات.
وهذا المعنى يتناسب أكثر مع المفهوم الواسع للدين.
وجملة (وذلك دين القيمة) تؤيد هذا المعنى لأنّها طرحت الدين بمفهومه الواسع.
"حنفاء" جمع "حنيف"، من الفعل الثّلاثي حَنَفَ، أي عدل عن الضلال إلى الطريق المستقيم، كما يقول الراغب في المفردات.
والعرب تسمي كلّ من حج أو خُتِنَ "خَنيفا" إشارة إلى أنّه على دين إبراهيم.
و"الأحنف" من كانت رجله عوجاء.
ويبدو أنّ الكلمة كانت في الأصل تستعمل للإنحراف والإعوجاج، والنصوص الإسلاميّة استعملتها بمعنى الإنحراف عن الشرك إلى التوحيد والهداية.
ومن الممكن أن تكون المجتمعات الوثنية قد اطلقت على من يترك الأوثان ويتجه إلى التوحيد اسم "حنيف"، أي منحرف.
ثمّ أصبحت الكلمة بالتدريج اسماً لسالكي طريق التوحيد ومن مستلزمات الكلمة الإخلاص في التوحيد والإعتدال التام واجتناب أي إفراط أو تفريط; غير أنّ هذه معان ثانوية للكلمة.
جملة (وذلك دين القيمة) (6) إشارة إلى أنّ الاُصول المذكورة في الآية وهي: التوحيد الخالص، والصلاة (الارتباط باللّه) والزكاة (الارتباط بالنّاس) من الاُصول الثابتة الخالدة في جميع الأديان، بل إنّها قائمة في أعماق فطرة الإنسان.
ذلك لأنّ مصير الإنسان يرتبط بالتوحيد، وفطرته تدعوه إلى معرفة المنعم وشكره، ثمّ إنّ الروح الإجتماعية المدنية للإنسان تدعوه إلى مساعدة المحرومين.
من هنا، هذه التعاليم لها جذور في أعماق الفطرة، وهي لذلك كانت في تعاليم كلّ الأنبياء السابقين وتعاليم خاتم النبيين (ص).
﴿وَمَا أُمِرُوا﴾ بما أمروا به من كتبهم ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ من الشرك والرياء ﴿حُنَفَاء﴾مائلين عن الأديان الباطلة ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ الملة المستقيمة.