التّفسير
تناولت الآيات السابقة الحديث عن الجهاد، والآيتان الأخيرتان تبيّنان التمايز بين المجاهدين وغيرهم من القاعدين، فتؤكد عدم التساوي بين من يبذل المال والنفس رخيصين في سبيل الهدف الإِلهي السامي، وبين من يقعده عن هذا البذل سبب آخر غير المرض الذي يحول دونه ودون المشاركة في الجهاد، (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أُولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم...).
وواضح من هذه الآية أنّ المقصود بالقاعدين فيها هم أُولئك المؤمنون بالإِسلام الذين لم يشاركوا في الجهاد في سبيله بسبب افتقارهم إِلى العزم الكافي لذلك، وتبيّن هنا - أيضاً - أنّ الجهاد المقصود لم يكن واجباً عينياً، فلو كان واجباً عينياً لما تحدث القرآن عن هؤلاء التاركين للجهاد بمثل هذه اللهجة المرنة ولم يكن ليوعدهم بالثواب.
وعلى هذا الأساس فإِنّ فضل المجاهدين على القاعدين لا يمكن إِنكاره حتى لو كان الجهاد ليس واجباً عينياً، ولا تشمل الآية بأي حال من الأحوال أُولئك الذين أحجموا عن المشاركة في الجهاد نفاقاً، وعدواناً ويجب الإِنتباهـأيضاً - إِلى أنّ عبارة (غير أُولي الضرر) لها مفهوم واسع يشمل كل أُولئك الذين يعانون من نقص العضو أو المرض أو الضعف الشديد، مما يحرمهم من المشاركة في الجهاد، فهؤلاء مستثنون من ذلك.
وتكرر الآية من جديد مسألة التفاضل بشكل أوضح وأكثر صراحة، وتؤكد في نهاية المقارنة، أنّ الله وهب المجاهدين أجراً عظيماً، (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة)(1).
ولكن - كما أسلفنا - لما كان في الجانب المقابل لهؤلاء المجاهدين يقف أُولئك الذين لم يكن الجهاد بالنسبة لهم واجباً عينياً أو لم يشاركوا في الجهاد بسبب مرض أو عجز أو علة أُخرى أعجزتهم عن هذه المشاركة، فذلك ولأجل أن لا يغفل ما لهؤلاء من نيّة صالحة وإِيمانه وأعمال صالحة أُخرى فقد وعدوا خيراً حيث تقول الآية الكريمة: (...وكلا وعد الله الحسنى) إِلاّ أنّه من البديهي أن هناك فرقاً شاسعاً بين الخير الذي وعد به المجاهدون، وبين ذلك الذي يصيب القاعدين من العاجزين عن المشاركة في الجهاد.
وتبيّن الآية القرآنية في هذا المجال: أنّ لكل عمل صالح نصيب محفوظ من الثواب لا يغفل ولا ينسى، خاصّة وهي تتحدث عن قاعدين أحبّوا المشاركة في الجهاد وكانوا يرونه سامياً مقدساً، وبما أن عدم كون هذا الجهاد واجباً عينياً قد حال دون تحقق هذا الهدف السامي المقدس فإِن أُولئك الذين قعدوا عن المشاركة فيه سينالون من الثواب على قدر رغبتهم في المشاركة، أمّا أُولئك الذين عجزوا عن المشاركة بسبب عاهة أو مرض إِلاّ أنّهم كانوا يرغبون في الإِشتراك في الجهاد برغبة جامحة، بل كانوا يعشقون الجهاد، لذلك فإِنّ لهم - أيضاً - سهم ونصيب لا ينكر من ثواب المجاهدين، كما جاء في حديث مروي عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطب فيه جند الإِسلام فيقول: "لقد خلفتم في المدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إِلاّ كانوا معكم، وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم وهوت أفئدتهم للجهاد وقد منعهم عن المسير ضرر أو غيره".(2)
وبما أنّ أهمية الجهاد في الإِسلام بالغة جداً، لذلك تتطرق الآية مرّة أُخرى للمجاهدين وتؤكد بأن لهم أجراً عظيماً يفوق كثيراً أجر القاعدين عن الجهاد عن عجز، (...وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً).
﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ عن الجهاد ﴿غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ﴾ من مرض أو عمى أو زمانة بالرفع صفة القاعدون إذ لم يعينوا، أو نصب على الحال أو الاستثناء ﴿وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾ غير أولي الضرر ﴿دَرَجَةً﴾ قيل المراد به معنى الجنس لا المرة ﴿وَكُلاًّ﴾ من المجاهدين والقاعدين ﴿وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى﴾ المثوبة الحسنى وهي الحسنة بحسن نيتهم وإن فضل المجاهدين بالعمل ﴿وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ نصب على المصدر لأن فضل بمعنى أجر.