لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآيات الأخيرة من السّورة تقول: (إنّها عليهم مؤصدة، في عمد ممددّة). و"مؤصدة" من الإيصاد، بمعنى الأحكام في غلق الباب. ولذلك تسمى الغرف الكائنة في داخل الجبال المخصصة لجمع الأموال "الوصيد". هؤلاء في الحقيقة يقبعون في غرف تعذيب مغلقة الأبواب لا طريق للخلاص منها، كما كانوا يجمعون أموالهم في الخزانات المغلقة الموصدة. و"العمد" جمع عمود و"ممددة" تعني طويلة. جمع من المفسّرين قال إنّها الأوتاد الحديدية العظيمة التي تغلق بها أبواب جهنّم حتى لم يعد هناك طريق للخروج منها أبداً، وهي بذلك تأكيد على الآية السابقة التي تقول: (إنّها عليهم مؤصدة). وقيل إنّها إشارة إلى نوع من وسائل التعذيب والجزاء تشبه تلك التي يُغَلّ بها الشخص في رجله فيفقد قدرة الحركة وهذا جزاء ما كانوا يمارسونه من تعذيب للناس الأبرياء في هذه الدنيا. وبعضهم أضاف تفسيراً ثالثاً استمده من الإكتشافات العلمية، وهو أن شعلة من نيران جهنّم تسلّط على هؤلاء مثل أعمدة طويلة. يقولون: إنّ الاكتشافات الأخيرة أثبتت أنّ أشعة اكس الخاصّة (اشعة رونتجن) تختلف عن سائر الأشعة الاُخرى التي تنتشر بشكل مخروطي، وذلك أنّها تنتشر بشكل عمودي، وقادرة على النفوذ في جميع الأجزاء الداخلية للإنسان بما في ذلك القلب. ولذلك يستفاد منها في تصوير الأعضاء الداخلية. والأشعة التي تخرج من نار جهنّم شبيهة بالأشعة المذكورة (13). ومن بين هذه التفاسير، التّفسير الأوّل أنسب. (واستناداً إلى بعض التفاسير عبارة (في عمد ممددة) تبيّن حالة جهنّم، وبعضها الآخر يرى أنّها بيان لحالة أهل جهنّم). بحثان 1 - الكبر والغرور أساس الذنوب الكبيرة الإستعلاء والتكبر على الآخرين بلاء عظيم يصيب الإنسان فيدفعه إلى ارتكاب أنواع المعاصي، الغفلة عن اللّه، والكفران بالنعم، والإنغماس في الأهواء والشهوات، والإستهانة بالآخرين، والإستهزاء بالمؤمنين...كلّها من الآثار المشؤومة لهذه الصفة الدنيئة، الأفراد الذين يعانون من عقد النقص ما أن تتوفر لهم مكنة حتى يستفحل فيهم الكبر والغرور بحيث لا يقيمون للآخرين وزناً، ويودي ذلك إلى انفصالهم عن المجتمع وانفصال المجتمع عنهم. يغرقون في عالم وهمي، ويرون أنفسهم موجوداً متميزاً، حتى يبلغ الأمر بهم أن يروا أنفسهم من المقربين إلى اللّه. وهذا يدفعهم إلى الإستهانة بأرواح الآخرين وأعراضهم وأموالهم، وينشغلون بالهمز واللمز، ويخالون أنّهم بالصاق العيب بالآخرين وذمهم يزيدون من عظمتهم وشخصيتهم. وفي بعض الرّوايات شبه هؤلاء الأفراد بالعقرب اللاسعة. (وإذا كان لسع العقرب عن طبيعة فيها، فلسع هؤلاء عن حقد وضغينة). وجاء في حديث عن رسول اللّه (ص) قال: "رأيت ليلة الإسراء قوماً يقطع اللحم من جنوبهم ثمّ يلقمونه، ويقال: كلوا ما كنتم تأكلون من لحم أخيكم، فقلت: يا جبرائيل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الهمازون من اُمتك اللمازون" (1). كما أشرنا من قبل، كان لنا وقفة أطول في هذا المجال عند تفسير سورة الحجرات. 2 - الحرص على جمع المال بشأن المال والثروة، اختلفت وجهات نظر النّاس بين أفراط وتفريط، بعضهم أسبغ على المال أهمية فائقة فجعله مفتاح حلّ كلّ المشاكل. وإلى ذلك ذهب الشاعر. في قوله: فصاحة سحبان وخط ابن مقلة وحكمة لقمان وزهد ابن أدهم إذا اجتمعت في المرء والمرء مفلس فليس له قدر بمقدار درهم ولذلك فإنّ دأب هؤلاء الأفراد جمع المال، ولا يدخرون وسعاً على هذا الطريق ولا يتقيدون بقيد، ولا يهتمون بحلال أو حرام ومقابل هذه المجموعة هناك من لا يعير أية أهمية للمال والثروة، يمتدحون الفقر ويشيدون به، ويرون في المال عائقاً للتقوى وللقرب الإلهي. وإزاء ذاك الإفراط وهذا التفريط، تقف النصوص الإسلامية لتبيّن أنّ المال مطلوب، ولكن بشروط، أوّلها أن يكون وسيلة لا غاية. والآخر، أن لا يكون الإنسان له أسيراً، بل أن يكون عليه أميراً. والثّالث: أن يأتي بالطرق المشروعة وأن ينفق في سبيل رضا اللّه. الرغبة في مثل هذا المال ليس دليلاً على حبّ الدنيا، بل هو دليل على الإنشداد بالآخرة. ولذلك ورد عن الإمام الصادق (ع) أنّه لعن الذهب والفضة، فتعجب أحد أصحابه وسأل الإمام فأجابه: "ليس حيث تذهب إليه إنّما الذهب الذي ذهب بالدين، والفضة التي أفاضت الكفر" (2). وعن أمير المؤمنين علي (ع) قال: "السكر أربع سكرات: سكر الشراب، وسكر المال، وسكر النوم، وسكر الملك". (3) وعن الإمام الصادق (ع) قال: "إن كان الحساب حقّاً فالجمع لماذا؟ وإن كان الخلف من اللّه عزّوجلّ حقّاً فالبخل لماذا؟" (4). كثيرون هم الذين ينشغلون حتى آخر حياتهم بجمع المال، ثمّ يتركونه للآخرين. هم مسؤولون عن حسابه، والآخرون ينالون ثماره، سئل أمير المؤمنين علي (ع) : من أعظم النّاس حسرة؟ قال: "من رأى ماله في ميزان غيره، وأدخله به النّار، وأدخل وارثه به الجنّة" (5). وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) في تفسير قوله تعالى: (وكذلك يريهم اللّه أعمالهم حسرات عليهم) قال: "هو الرجل يدع المال لا ينفقه في طاعة اللّه بخلاً ثمّ يموت فيدعه لمن يعمل به في طاعة اللّه أو في معصيته". ثمّ قال الإمام: "فإن عمل به في طاعة اللّه رآه في ميزان فزاده حسرة، وقد كان المال له أو عمل به في معصية اللّه فهو قوّاه بذلك المال حتى عمل به في معاصي اللّه" (6). نعم، رؤية الإنسان للمال قد تصير من المال وثناً خطراً، وقد تجعل منه وسيلة لسعادة كبرى. نختتم هذه الوقفة بما ورد عن ابن عباس عن كلام عميق الدلالة قال: "إنّ أوّل درهم ودينار ضربا في الأرض نظر إليهما إبليس فلما عاينهما أخذهما فوضعهما على عينيه، ثمّ ضمهما إلى صدره، ثمّ صرخ صرخة، ثمّ ضمهما إلى صدره، ثمّ قال: أنتما قرّة عيني! وثمرة فؤادي، ما اُبالي من بني آدم إذا أحبّوكما أن لا يعبدوا! وثناً! حسبي من بني آدم أن يحبّوكما" (7). اللّهمّ! احفظنا من سكرة المال والمقام والدنيا والشهوات. ربّنا! نجنا من سيطرة الشيطان وعبودية الدرهم والدينار. إلهنا! لا نجاة لنا من "الحطمة" المهشمة إلاّ بفضلك فارأف بنا يا كريم. آمين يا ربّ العالمين نهاية سورة الهُمزة ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ﴾ مطبقة.