ويقول تعالى في آخر آية من هذه الآيات، بلحاظ الإستفادة من هذا الدرس والإعتبار به: (كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون).
وهكذا توجّه الآية خطابها إلى كلّ المغرورين، الذين سحرهم المال وأبطرتهم الثروة والإمكانات المادية، وغلب عليهم الحرص والإستئثار بكلّ شيء دون المحتاجين... بأنّه لن يكون لكم مصير أفضل من ذلك.
وإذا ما جاءت صاعقة وأحرقت تلك الجنّة، فمن الممكن أن تأتي صاعقة أو عذاب عليكم من أمثال الآفات والحروب المحلية والعالمية المدمّرة، وما إلى ذلك، لتذهب بالنعم التي تحرصون عليها.
ملاحظات
1 - الإستئثار بالنعم بلاء عظيم
جبل الإنسان وطبع على حبّ المال، ويمثّل هذا الحبّ غريزة في نفسه، لأنّ له فوائد شتّى، وهذا الحبّ غير مذموم إذا كان في حدّ الإعتدال، وجعل نصيب منه للمحتاجين، وهذا لا يعني الإقتصار على أداء الحقوق الشرعية فقط، بل أداء بعض الإنفاقات المستحبّة.
وجاء في الرّوايات الإسلامية ضرورة جعل نصيب للمحتاجين الحاضرين ممّا يقطف من ثمار البساتين وحصاد الزرع.
وهذا ما يعرف بعنوان (حقّ الحصاد) وهو مقتبس من الآية الشريفة: (وآتوا حقّه يوم حصاده)(208)، وهذا الحقّ غير حقّ الزكاة، وما يعطى للمحتاجين الحاضرين منه أثناء قطف الثمار أو حصاد الزرع غير محدود بحدّ معيّن(209).
إلاّ أنّ التعلّق بالمال حينما يكون بصورة مفرطة وجشعة فإنّه يأخذ شكلا منحرفاً وأنانياً، وقد لا يكون بحاجة إليه، فحرمان الآخرين والإستئثار بالأموال والتلذّذ بحيازة النعم والمواهب الإلهية دون سواه، مرض وبلاء كما نلاحظ في حياتنا المعاصرة مفردات ونماذج كثيرة في مجتمعاتنا البشرية تعيش هذه الحالة.
وقصّة (أصحاب الجنّة) التي حدّثتنا الآيات السابقة عنها، هي كشف وتعرية واضحة لهذه النفسيات المريضة لأصحاب الأموال الذين يستأثرون بالخير والنعم والهبات الإلهية، ويؤكّدون بحصرها فيهم دون سواهم... ويتجسّد هذا المعنى في الخطّة التي اُعدّت من جانب أصحاب الجنّة في حرمان المحتاجين، بالتفصيل الذي ذكرته الآيات الكريمة... وغاب عن بالهم أنّ آهات هؤلاء المحرومون تتحوّل في أحيان كثيرة إلى صواعق محرقة، تحيل سعادة هؤلاء الأغنياء الظالمين إلى وبال، وتظهر هذه الصواعق على شكل كوارث ومفاجآت وثورات، ويشاهدون آثارها المدمّرة باُمّ أعينهم، ويتحوّل ترفهم وبذخهم إلى زفرات وآهات وصرخات تشقّ عنان السماء، معلنين التوبة والإقلاع عن الممارسات الإستئثارية، ولات ساعة متاب.
2 - العلاقة بين (الرزق) و (الذنوب)
ممّا يستفاد - ضمناً - من القصّة أعلاه وجود علاقة بين الذنب والرزق، وممّا يؤيّد هذا ما ورد في حديث عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال: "إنّ الرجل ليذنب الذنب، فيدرأ عنه الرزق، وتلا هذه الآية: (إذ أقسموا ليصرمنّها مصبحين ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربّك وهم نائمون)(210).
ونقل عن ابن عبّاس أيضاً أنّه قال: إنّ العلاقة بين الذنب وقطع الرزق، أوضح من الشمس، كما بيّنها الله عزّوجلّ في سورة ن والقلم(211).
﴿كَذَلِكَ﴾ المذكور مما بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة ﴿الْعَذَابُ﴾ الدنيوي ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ﴾ أعظم ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ذلك لأطاعوا.