وتبيّن الآيات اللاحقة شارحة وموضّحة طبيعة علاقة المودّة مع المشركين، حيث يقول سبحانه: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين إنّما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فاُولئك هم الظالمون).
وبهذه الصورة يقسّم القرآن الكريم "المشركين" إلى فئتين:
فئة: عارضوا المسلمين ووقفوا بوجوههم وشهروا عليهم السلاح وأخرجوهم من بيوتهم وديارهم كرهاً، وأظهروا عداءهم للإسلام والمسلمين في القول والعمل... وموقف المسلمين إزاء هذه المجموعة هو الإمتناع عن إقامة كلّ لون من ألوان علاقة المحبّة وصلة الولاء معهم.
والمصداق الواضح لهذه المجموعة هم مشركو مكّة، وخصوصاً سادات قريش، حيث بذل بعضهم كلّ جهدهم لحرب المسلمين وإيذائهم، وأعانوا آخرون على ذلك.
وفئة اُخرى: مع كفرهم وشركهم - لا يضمرون العداء للمسلمين، ولا يؤذونهم ولا يحاربونهم ولم يشاركوا في إخراجهم من ديارهم وأوطانهم، حتّى أنّ قسماً منهم عقد عهداً معهم بالسلم وترك العداء.
إنّ الإحسان إلى هذه المجموعة وإظهار الحبّ لهم لا مانع منه، وإذا ما عقد معهم عهد فيجب الوفاء به، وأن يسعى لإقامة علاقات العدل والقسط معهم ...ومصداق هذه الجماعة يتجسّد بطائفة (خزاعة) الذين كانوا قد عقدوا عهداً مع المسلمين على المسالمة معهم وترك الخصام.
وبناءً على ذلك فلا مجال لقول بعض المفسّرين من أنّ هذه الآية منسوخة بما ورد في قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)(3).
حيث أنّ هذه الآية من سورة التوبة تتحدّث عن المشركين الذين نقضوا العهد ومارسوا أدواراً عدائية ضدّ الإسلام والمسلمين بصورة علنية، ويتبيّن ذلك من خلال الإستدلال بالآيات اللاحقة التي تلي هذه الآية الكريمة(4).
وقد ذكر بعض المفسّرين في حديثه حول هذه الآية أنّ زوجة أبي بكر المطلّقة أتت بهدايا لإبنتها "أسماء" من مكّة، إلاّ أنّ إبنتها إمتنعت عن قبولها، بل إنّها إمتنعت أيضاً حتّى من السماح لاُمّها من دخول بيتها، فنزلت الآية أعلاه وأمرها رسول الله (ص) أن تلتقي باُمّها وتقبل هديّتها وتكرمها وتحسن ضيافتها(5).
وتبيّن لنا هذه الرواية أنّ هذا الحكم لم يكن ليشمل أهل مكّة أجمع، حيث أنّ أقليّة منهم لم تكن تضمر العداء للمسلمين، ولم يكن لهم موقف عدائي إزاء المسلمين، وبشكل عام فإنّ المستفاد من الآيات الكريمة حول طبيعة وكيفية العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو (أصل كلّي وأساسي) لا يختّص بذلك الوقت فقط، بل يمثّل خطّاً عامّاً لطبيعة هذه العلاقة في كلّ الأزمنة سواء اليوم أو غداً، في حياتنا المعاصرة والمستقبلية.
وواجب المسلمين وفق هذه الاُسس أن يقفوا بكلّ صلابة أمام أيّة مجموعة، أو دولة، تتّخذ موقفاً عدائياً منهم أو تعيّن من أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً... وقطع كلّ صلّة قائمة على أساس المحبّة والصداقة معهم.
أمّا إذا كان الكفّار في موقع محايد إزاء الإسلام والمسلمين، أو أنّهم متعاطفون معهم، عندئذ يستطيع المسلمون أن يقيموا علاقات حسنة ويرتبطوا وإيّاهم بروابط المودّة على أن لا تكون بالصورة التي تكون بين المسلمين أنفسهم، ولا بالشكل الذي يؤدّي إلى تغلغلهم في صفوف المسلمين.
وإذا تغيّر موقف جماعة ما، أو دولة ما، وهي من الصنف الأوّل أو حصل عكس ذلك في موقف الصنف الثاني، فبدلّوا سيرتهم من المسالمة إلى المحاربة والعداء، فيجب أن يتغيّر معيار التعامل معهم حسب موقفهم الجديد وواقعهم الفعلي، وتبنى معهم العلائق حسبما ورد من مفاهيم طبقاً للآيات أعلاه.
﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ﴾ من أهل العهد أو من اتصف بذلك ﴿أَن تَبَرُّوهُمْ﴾ بدل اشتمال من الذين
﴿وَتُقْسِطُوا﴾ تقضوا ﴿إِلَيْهِمْ﴾ بالقسط أي العدل ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ العادلين.