لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ﴾ في مكة قبل الهجرة ﴿كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ﴾ عن قتال الكفرة حين طلبوه لإيذائهم له ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾ اشتغلوا بما فرض عليكم ﴿وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ﴾ في المدينة ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ﴾ الكفار أن يقتلوهم ﴿كَخَشْيَةِ اللّهِ﴾ أن ينزل عليهم بأسه ﴿أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ﴾ خوفا من الموت ﴿رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا﴾ هلا ﴿أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ استزاده في مدة الكف عن القتال ﴿قُلْ﴾ لهم ﴿مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ﴾ زائل ﴿وَالآخِرَةُ﴾ أي ثوابها الباقي ﴿خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى﴾ الله ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ بالتاء والياء ﴿فَتِيلاً﴾ أدنى شيء. سبب النزول روى جمع من المفسّرين كالشّيخ الطوسي في التبيان، والقرطبي وصاحب المنار عن ابن عباس أنّ نفراً من المسلمين كانوا أثناء وجودهم في مكّة قبل الهجرة يعانون من ضغط المشركين وإذاءهم، فجاءوا إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه أن يسمح لهم بقتال الأعداء فأجابهم النّبي في حينه أنّه لم يؤمر بالجهاد. ومضت أيّام على طلب هؤلاء، حتى هاجر المسلمون إِلى المدينة وتهيأت هناك ظروف وشروط الجهاد المسلح، وأمر الله المسلمين بالجهاد، فأخذ بعض من أُولئك النفر الذين كانوا يصرّون على النّبي للسماح لهم بالجهاد وقتال الأعداء في مكّة يظهرون الكسل والتهاون في تنفيذ الأمر الإِلهي، ولم يبدوا أي حماس أو رغبة في الجهاد، كما كانوا يظهرون ذلك في مكّة، فنزلت هذه الآية وهي تحثّ المسلمين على الجهاد وتؤنب المتهاونين والمتقاعسين عن هذا الواجب الحسّاس. وقد تطرقت الآية الكريمة إِلى عدد من الحقائق في هذا الصدد. التّفسير قوم بضاعتهم الكلام دون العمل: تتحدث الآية بلغة التعجب من أمر نفر أظهروا رغبة شديدة في الجهاد خلال ظرف غير مناسب، وأصرّوا على السماح لهم بذلك، وقد صدرت الأوامر لهم - حينئذ - بالصبر والإِحتمال، ودعوا إِلى إِقامة الصلاة، وأداء الزكاة، وبعد أن سنحت الفرصة وآتت الظروف للجهاد بصورة كاملة وأمروا به، إستولى على هؤلاء النفر الخوف والرعب، وانبروا يعترضون على الأمر الإِلهي ويتهاونون في أدائه. تقول الآية: (ألم تر إِلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلمّا كتب عليهم القتال إِذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشدّ خشية...) فكان هؤلاء في اعتراضهم على أمر الجهاد يقولون صراحة: لماذا يأسرع الله في إِنزال أمر الجهاد؟ ويتمنون لو أخر الله هذا الأمر ولو قلي! أو يطلبون أن يناط أمر الجهاد للأجيال القادمة(1) (وقالوا ربّنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إِلى أجل قريب...). يوالقرآن الكريم يردّ على هؤلاء أوّ من خلال عبارة: (يخشون الناس كخشية الله أو أشدّ خشية) أي أن هؤلاء بدل أن يخافوا الله القادر القهار، أخذتهم الرّجفة واستولى عليهم الرعب من إِنسان ضعيف عاجز، بل أصبح خوفهم من هذا الإِنسان أكبر من خشيتهم الله العلي القدير. ثمّ يواجه القرآن هؤلاء بهذه الحقيقة: لو أنّهم استطاعوا بعد تركهم الجهاد أن يوفّروا لأنفسهم - فرضاً - حياة قصيرة رغيدة هانئة، فإنّهم سيخسرون هذه الحياة لأنّها زائلة لا محالة، بينما الحياة الأبدية التي وعد الله بها عباده المؤمنين المجاهدين الذين يخشونه ولا يخشون سواه، هي خير من تلك الحياة الزائلة، يوإِن المتقين سيلقون فيها ثوابهم كام غير منقوص دون أن يصيبهم أي ظلم، (قل يمتاع الحياة الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتي)(2). من الضروري الإِلتفات إِلى عدة نقاط في تفسير هذه الآية، وهي: 1 - لماذا أُمرت أُولئك النفر بإِقامة الصلاة وأداء الزكاة دون غيرهما من الفرائض الكثيرة الاُخرى؟ والجواب على هذا السؤال يتلخص في أنّ الصلاة هي سر الإِتصال بالله سبحانه عزّ وجل، والزكاة تعتبر مفتاحاً لباب الإِتصال بعباد الله، وعلى هذا الأساس فقد صدرت الأوامر للمسلمين بأن يعدّوا أنفسهم وأرواحهم ومجتمعهم للجهاد في سبيل الله، عن طريقة إِقامة الصلة الوثيقة بينهم وبين الله وعباده، وبعبارة أُخرى أن يسعوا إِلى بناء أنفسهم وإِعدادها، وبديهي أن أي جهاد يحتاج بالضرورة إِلى إِعداد النفس والروح، وإِلى توثيق عُرى التلاحم الإِجتماعي، وبدون ذلك لا يمكن إِحراز أي إنتصار. والإِنسان يقوي صلته بالله من خلال الصلاة ويربّي بها روحه ومعنوياته، فيكون بذلك مستعداً لتقديم أغلى التضحيات بما في ذلك التضحية بالنفس، كما أنّ الزكاة هي الوسيلة الوحيدة لرأب كل صدع إِجتماعي، بالإِضافة إِلى كونها دعماً إِقتصادياً في سبيل إِعداد ذوي الخبرة والتجربة والعُدة الحربية، وما يحتاجه المسلمون في قتال الأعداء ليكونوا على استعداد لمواجهة العدو إِذا صدر الأمر إِليهم بذلك. 2 - المعروف أنّ حكم الزكاة ورد في آيات نزلت في المدينة (أي أنّها آيات مدنية) ولم يكلف المسلمون بأداء الزكاة في مكّة - فكيف إِذن يمكن القول إِن هذه الآية تتحدث عن وضع المسلمين في مكّة؟ يجيب على هذا السؤال الشيخ الطوسي(رحمه الله) في تفسير "التّبيان" فيقول: إِنّ المقصود بالزكاة الواردة في هذه الآية هو الزكاة المستحبة التي كانت معروفة في مكّة، أي أنّ القرآن المجيد كان يحثّ المسلمين حتى في مكّة على تقديم المساعدات المالية إِلى مستحقيها ولدعم إقتصاد المجتمع الإِسلامي الجديد في مكّة. 3 - وتشير هذه الآية الكريمة إِلى حقيقة مهمة، هي أنّ المسلمين في مكّة كان لهم منهج، ثمّ أصبح لهم في المدينة منهج آخر، ففي مكّة انشغل المسلمون ببناء شخصيتهم الإِسلامية بعد أن تحرروا من أدران الجاهلية، فكان سعي النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة منصباً على تربية هؤلاء الذين نبذوا عبادة الأصنام ليجعل منهم أناساً يسترخصون النفس والنفيس في مواجهة ما يعترض سبيل المسلمين من تحديات، فما أحرزه المسلمون من إنتصارات باهرة في المدينة المنورة، كان حصيلة عملية بناء الشخصية الإِسلامية، هذه العملية التي تعهدت بها رسالة الإِسلام في مكّة. لقد تعلم المسلمون الكثير في مكّة ومارسوا تجارب جمّة واكتسبوا استعداداً روحياً ومعنوياً عظيماً خلال العهد المكي، ودليل هذا الأمر هو نزول قرابة التسعين سورة - من مجموع سور القرآن الكريم البالغة مائة وأربع وعشرة سورة - في مكّة، وقد تناولت هذه السور في الغالب الجوانب العقائدية التربوية الخاصّة بإِعداد الشخصية الإِسلامية - أمّا في المدينة فقد انصرف المسلمون إِلى تشكيل الحكومة الإِسلامية وإِقامة أُسس المجتمع الإِسلامي السليم. ويدل هذه - أيضاً - على عدم نزول حكم الجهاد والزكاة الواجبين في العصر المكي لأنّ الجهاد من واجبات الحكومة الإِسلامية مثل تشكيل بيت المال فإِنّه من شؤون الحكومة الإِسلامية أيضاً.