لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير الهجرة حكم اسلامي بنّاء: بعد أنّ بحثت الآيات السابقة حول الأفراد الذين يقعون فريسة الذّل والمسكنة بسبب عدم إِيفائهم بواجب الهجرة، تشرح الآية الأخيرة بشكل صريح وحاسم أهمية الهجرة في قسمين: في القسم الأوّل: تشير هذه الآية إِلى نعم وبركات الهجرة في الحياة الدنيا، فتقول إن االذي يهاجر في سبيل الله إِلى أي نقطة من نقاط هذه الأرض الواسعة، سيجد الكثير من النقاط الآمنة الواسعة ليستقر فيها، ويعمل هناك بالحقّ ويرغم أنف المعارضين (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة...). ويجب الإِلتفات إِلى أن عبارة "مراغم" مشتقة من المصدر "رغام" على وزن "كلام" والذي يعني التراب، والإِرغام معناه التمريغ في التراب والإِذلال و"مراغم" صيغة لإِسم المفعول واسم مكان أيضاً. وقد وردت في الآية هذه بمعنى اسم مكان كذلك، أي أنّها المكان الذي يمكن فيه تحقيق الحق وتطبيقه والعمل به، كما يمكن فيه إِدانة المعارضين للحق وتمريغ أنفهم بالتراب. بعد ذلك تشير الآية في القسم الثاني منها إِلى الجانب المعنوي الأخروي للهجرة: (ومن يخرج من بيته مهاجراً إِلى الله ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً)، وعلى هذا الأساس فإِن المهاجرين في كل الأحوال سينالهم نصر كبير، سواء وصلوا إِلى المكان الذي يستهدفونه ليتمتعوا فيه بحرية العمل بواجباتهم، أو لم يصلوا إِليه فيفقدوا حياتهم في هذا الطريق، وفي هذا المجال وعلى الرغم من بداهة حقيقة تلقي الصالحين أجرهم من الله سبحانه وتعالى، إِلاّ أنّ الآية موضوع البحث قد صرحت بهذا الأمر بقولها: (فقد وقع أجره على الله...) وهذا يوضح مدى عظمة وأهمية الثواب والأجر الذي يناله المهاجرون. الإِسلام والهجرة: إِنّ الإِسلام - إِستناداً إِلى هذه الآية وآيات كثيرة أُخرى - يأمر المسلمين بكل صراحة بالهجرة من المحيط الذي يعانون فيه - لأسباب خاصّة - من عدم التمكن من أداء واجباتهم إِلى محيط ومنطقة آمنة، وسبب هذا الأمر واضح، لأنّ الإِسلام لا يُحدّ بمكان ولا يقيد بمحيط معين خاص، ولهذا فإِن التمسك المفرط بالمحيط ومحل التولد والعلاقات المختلفة الاُخرى لا تقف فينظر الإِسلام يحائ دون هجرة المسلمين. ولذلك نرى إِنفصام كل هذه العلاقات في الصدر الأوّل للإِسلام ومن أجل حماية الإِسلام وتقدمه، وفي هذا المجال يقول أحد المؤرخين الغربيين: إنّ القبيلة والعائلة هما الشجرة الوحيدة التي تنبت في الصحراء، ولن يستطيع أحد الحياة دون اللجوء إِليها، إِلاّ أنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قلع هذه الشجرة التي نمت بلحم ودم عائلته، وفعل ذلك من أجل ربه وخالقه (فقد فصم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علاقته بقريش في سبيل الإسلام)(1). علاوة على ما ذكر فإِن من بين جميع الموجودات الحيّة، حين تتعرض حياة أي واحداً أو مجموعة منها إِلى الخطر، نراها تضطر إِلى ترك مكان تواجدها والهجرة منه إِلى مأوى وملجأ أمن آخر، والكثير من أبناء البشر الأقدمين عمدوا إِلى الهجرة من مكان ولادتهم - بسبب تغير الظروف الجغرافية فيه - إِلى نقاط أُخرى من العالم من أجل مواصلة الحياة، وليس البشر وحدهم الذين مارسوا الهجرة، بل هناك من بين الحيوانات أنواع كثيرة عرفت بالحيوانات المهاجرة، مثل الطيور التي تضطر أحياناً إِلى الدوران حول الأرض تقريباً من أجل إِيجاد مأوى تواصل فيه حياتها، وبعض هذه الطيور تهاجر من القطب الشمالي إِلى القطب الجنوبي، وأحياناً تقطع مسافة حوالي (18) ألف كيلومتر للوصول الى المكان الذي تريد العيش فيه. وهذه الشواهد هي خير دليل على أنّ الهجرة هي إِحدى القوانين الخالدة للحياة، فهل يصح أن يكون الإِنسان أقل حظاً من الحيوان في هذا المجال؟ وحين تتعرض، حياته المعنوية، وكيانه وأهدافه المقدسة التي هي أثمن وأغلى من حياته المادية إِلى الخطر، فهل يستطيع هذا الإِنسان البقاء في مكان يالخطر متشبثاً بالأرض والمولد وغير ذلك متحم ألوان الذل والإِهانة والحرمان وسلب الحريات، والأهم من ذلك كلّه زوال أهدافه التي يعيش من أجلها؟! أو أن عليه أن يختار قانون الطبيعة في الهجرة، ويترك ذلك المكان، ويختار مكاناً آخر يتيسر فيه المجال لنموه المادي والمعنوي؟ الطريف في هذا الأمر أنّ الهجرة - أي تلك الهجرة التي كانت لأجل حفظ النفس وحماية الشريعة الإِسلامية - تعتبر مبدأ - أو بداية - التاريخ الإِسلامي، وهي بذلك تعد البنية الأساسية لكل الأحداث السياسية والاعلامية والإِجتماعية للمسلمين. فلننظر لماذا انتخبت هجرة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مبدأ - أو بداية - للتاريخ الإِسلامي؟ إِنّ هذا الموضوع جدير بالملاحظة، لأنّنا نعلم أن أي مجموعة بشرية صغرت أو كبرت، تتخذ لنفسها مبدأ أو بداية تاريخية تحسب منه تاريخها، يفالمسيحيون مث اتّخذوا بداية تاريخهم السنة التي ولد فيها عيسى(عليه السلام)، أمّا المسلمون فمع وجود أحداث مهمة كثيرة وقعت لهم قبل الهجرة، مثل يوم ولادة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويوم البعثة المحمّدية الشريفة، وفتح مكّة، ووفاة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لكنهم لم يتخذوا أي واحد من الأحداث مبدأ أو بداية لتاريخهم، بل اعتبروا حادثة الهجرة وحدها بداية للتاريخ الإِسلامي. إِنّ التاريخ يقول أنّ المسلمين بدأوا يفكرون بتعيين بداية تاريخهم الذي له أهمية عامّة وشاملة في زمن الخليفة الثاني الذي توسعت في عهده رقعة البلاد الإِسلامية - وأنّ المسلمين بعد البحث الكثير في هذا الأمر، اختاروا رأي علي بن أبي طالب(عليه السلام) بإِتّخاذ حادثة الهجرة النبوية الشريفة مبدأ وبداية للتاريخ الإِسلامي(2). والحقيقة أنّ هذا الإِختيار كان هو المتعيّن، لأنّ الهجرة كانت أهم والمع حدث أو برنامج حصل للإِسلام، وكانت الهجرة مبدأ فصل جديد مهم في التاريخ الإِسلامي، فالمسلمون حين وجودهم في مكّة كانوا يمارسون تعلم شؤونهم الحياتية وفق دينهم الجديد (الاسلام) ولم تكن لديهم في هذه الحالة - على ما يبدو - أي قدرة سياسية وإجتماعية، ولكنهم بعد الهجرة شكلوا مباشرة الدولة الإسلامية التي تقدمت بسرعة فائقة - في كل المجالات - ولو أنّ المسلمين لم يذعنوا لأمر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في اختيار الهجرة وفضلوا البقاء في مكّة، لما تيسر عند ذلك للإِسلام أن يمتد خارج حدود مكّة، بل حتى كان من الممكن أن يقبر الإِسلام في مكّة ويمحى أثره. ويتّضح لنا أنّ الهجرة لم تكن حكماً خاصاً بزمن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل أنّها تجب على المسلمين متى ما تعرضوا لظروف مشابهة لتلك الظروف التي اضطرت النّبي وأصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى ترك مكّة والهجرة إِلى المدينة. والقرآن يعتبر الهجرة في الأساس جوهراً لوجود الحرية والرفاه، وقد أشارت الآية - موضوع البحث - إِلى هذا الأمر، كما أن الآية (41) من سورة النحل تشير من جانب آخر إِلى هذه الحقيقة، إِذ تقول: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدّنيا حسنة). وتجدر الإِشارة - أيضاً - إِلى هذه النقطة، وهي أنّ الهجرة في نظر الإِسلام لا تقتصر على الهجرة المكانية والخارجية، بل يلزم قبل ذلك أن تتحقق لدى الفرد المسلم هجرة باطنية في نفسه، يترك بها كل ما ينافي الأصالة والكرامة الإِنسانية، لكي يتيسر له بهذا السبيل إِلى الهجرة المكانية - إِذن فالهجرة الباطنية ضرورية قبل أن يبدأ الإِنسان المسلم هجرته الخارجية - وإِذا لم يكن هذا الإنسان بحاجة إِلى الهجرة الخارجية، يكون قد نال درجة المهاجرين بهجرته الباطنية. والإساس في الهجرة هو الفرار من "الظلمات" إِلى "النور" ومن الكفر إِلى الإِيمان، ومن الخطأ والعصيان إِلى إطاعة حكم الله، لذلك نجد في الحديث ما يدل على أنّ المهاجرين الذين هاجروا بأجسامهم دون أن تتحقق الهجرة في بواطنهم وأرواحهم، ليسوا في درجة المهاجرين، وعلى عكس هؤلاء فإِنّ من تتحقق لديه الهجرة الباطنية الروحية ولم يتمكن أو لم يحتج إِلى الهجرة الخارجية فهو في عداد المهاجرين حقاً. وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) قوله: "ويقول الرجل هاجرت، ولم يهاجر، إِنّما المهاجرون الذين يهجرون السيئات ولم يأتوا بها". وعن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "من فر بدينه من أرض إِلى أرض وإِن كان شبراً من الأرض، استوجب الجنّة وكان رفيق محمّد وإِبراهيم(عليهما السلام)"(3). لأنّ هذين النّبيين هما قادة وأئمّة مهاجري العالم. ﴿وَمَن يُهَاجِرْ﴾ يفارق أهل الشرك ﴿فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا﴾ متحولا إلى الرغام أي التراب أو طريقا يرغم بسلوكه قومه أي يهاجرهم على رغم أنوفهم ﴿وَسَعَةً﴾ في الرزق ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ﴾ في الطريق ﴿فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾.