بعد بيان هذه المواهب العظيمة - التي هي أهم ركائز الحياة الإنسانية - يتناول القرآن الكريم موهبة أُخرى مهمّة جدّاً فيقول: (وهو الذي أرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً).
لا يخفى أن دور الرياح هو أنّها الطلائع المتقدمة لنزول الرحمة الإلهية، وإلاّ فلن تنزل قطرة مطر على الأرض العطشى أبداً.
صحيح أن ضياء الشمس يبخر ماء البحار فيتصاعد في الفضاء، وتراكم هذه الأبخرة في طبقة عليا باردة يشكل الغيوم الممطرة، ولكن إذا لم تحمل الرياح هذه الغيوم المثقلة من أعالي المحيطات باتجاه الأراضي اليابسة، فستتحول هذه الغيوم إلى مطر وستهطل على نفس ذلك البحر.
والخلاصة أن وجود بشائر الرحمة هذه، التي تتحرك بشكل دائم في كل ارجاء الأرض، سبب رواء الجفاف على الأرض، ونزول المطر الباعث على الحياة وتشكيل الأنهار والعيون والآبار، ونمو أنواع النباتات.
إنّ قسماً من هذه الرياح المتقدمة لقطعات الغيوم، في حركتها وامتزاجها برطوبة ملائمة، تبعث النسيم المنعش الذي تشم منه رائحة المطر، هذه الرياح مثل البشير الذي يُنبىء عن قدوم مسافر عزيز.
التعبير بـ "الرياح" بصيغة الجمع لعله إشارة إلى أنواع مختلفة منها، فبعض شمالي، وبعض جنوبي، وبعض يهب من الشرق إلى الغرب، ومنها ما يهب من الغرب إلى الشرق، فتكون سبباً في انتشار الغيوم في كل الآفاق.(4)
المهم هنا هو أن "الماء" قد وصف بـ "الطهور" التي هي صيغة مبالغة من الطهارة والنقاء ولهذا فمفهوم الطهارة والتطهير يعني أن الماء طاهر بذاته، ويطهر الأشياء الملوثة... ثمّة أشياء كثيرة غير الماء طاهرة، ولكنّها لا تستطيع أن تكون مطهرة لغيرها!
وعلى أية حال، فمضافاً إلى خاصية الإحياء، فإنّ للماء خاصية كبيرة الأهمية هي التطهير، فلولا الماء فإنّ أجسامنا ونفوسنا وحياتنا تتسخ وتتلوث في ظرف يوم واحد والماء وإن لم يكن قاتلا للميكروب عادة، ولكنّه يستطيع ازالتها وطردها بسبب خاصيته الفذة (الإذابة). ومن هذه الناحية فإنّه يقدم مساعدة مؤثرة جدّاً في مسألة سلامة الإنسان ومكافحة أنواع الأمراض.
مضافاً إلى أن تنقية الروح من التلوث بواسطة الغسل والوضوء تكون بالماء، إذن فالماء مطهر للروح والجسم معاً.
﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ﴾ ووحدها ابن كثير ﴿بُشْرًا﴾ بالباء أي مبشرات وقرىء بالنون أي منتشرة جمع نشور ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ قدام المطر ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا﴾ مطهرا لقوله ليطهركم به وهو اسم لما يتطهر به كالوقود لما يوقد به أو بليغا في الطهارة لأنه مطهر.