لكن خاصية التطهير هذه مع ما لها من الأهمية، اعتبرت في الدرجة الثّانية، لذا يضيف القرآن الكريم في الآية التي بعدها بأنّ الهدف من نزول المطر هو الإحياء: (لنحي به بلدة ميتاً) (5).
وأيضاً (ونسقيه ممّا خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيراً).
ملاحظات
و هنا ملاحظات مهمّة:
1 - في هذه الآية ورد الكلام عن الأنعام والأناسي الكثيرة مع أن جميع الناس والحيوانات تستفيد من ماء المطر!!
هذه إشارة إلى البدو الرحل وساكني الخيام الذين ليس لديهم ماء مطلقاً سوى ماء المطر حيث يستفيدون منه مباشرة، هذه النعمة الكبيرة محسوسة لديهم أكثر فحينما تظهر السُحب في السماء ويمطل عليهم المطر، وتمتلىء الأراضي المنخفضة من ماء المطر الزلال، فيرتوون منه ويسقون انعامهم، ويشعرون بنشاط الحياة يدبُّ في وجودهم ووجود أنعامهم.
2 - جملة "نسقيه" من مادة "إسقاء" وفرقها عن "سقى"كما قال الراغب في المفردات وآخرون من المفسّرين، هو أنّ الإسقاء بمعنى تهيئة الماء وجعله للسقاية، ليشرب منه الإنسان متى أراد، في حين أن مادة "سقى" بمعنى أن يُعطى من يريد الماء حتى يشرب، وبعبارة أخرى فإن الإسقاء له معنىً أوسع وأعم.
3 - في هذه الآية، ورد الكلام أوّلا عن الأراضي الميتة، ثمّ الأنعام ثمّ الأناسي، وهذا التعبير ربّما كان لأن الأراضي إذا لم تحي بالمطر، فلن يكون للأنعام طعام، وإذا لم تعش الأنعام، فلن يستطيع الإنسان إن يتعذى منها.
4 - طرح مسألة الإِحياء بالماء بعد مسألة التطهير، قد يكون إشارة إلى الإِرتباط الوثيق بين هاتين المسألتين (حول آثار الإِحياء بالماء، ثمّة بحث مفصل في ذيل الآية 30 سورة الانبياء).
في الآية الأخيرة - مورد البحث - يشير تعالى إلى القرآن فيقول: جعلنا هذه الآيات بينهم بصور مختلفة ومؤثرة ليتذكروا وليتعرفوا من خلاله على قدرة الخالق، لكن كثيراً من الناس لم يتخذوا موقفاً إزاء ذلك إلاّ الإنكار والكفران: (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلاّ كفوراً).
وإن أرجع كثير من المفسّرين مثل العلامة الطبرسي في تفسيره، والشيخ الطوسي في تفسير التبيان، والعلامة الطباطبائي في تفسير الميزان وآخرين، الضمير في جملة "صرفناه" إلى المطر، حيث يكون مفهومها هكذا: أنزلنا المطر في جهات ومناطق مختلفة من الأرض، ووزعناه بين الناس ليتذكروا هذه النعمة العظمى.
لكن الحق أن هذا الضمير يرجع إلى القرآن وآياته، لأن هذا التعبير (بصيغة الفعل الماضي والمضارع) ورد في عشرة مواضع من القرآن المجيد، حيث أُرجع في تسعة مواضع إلى آيات القرآن وبياناته صراحة، وأُتبع بجملة "ليذكروا" أو ما يشابهها في موارد متعددة. على هذا فمن البعيد جداً أن يأخذ هذا التعبير مفهوماً آخر في هذا المورد الواحد.
و من حيث الأصل فإنّ "تصريف" التي هي بمعنى التحويل من حال إلى حال، ليس لها تناسب كثير مع نزول المطر، في وقت هي أكثر تناسباً مع آيات القرآن التي تأتي في انحاء مختلفة، أحياناً بصورة وعد، وأحياناً بصورة أمر، وأُخرى بصورة نهي، وأحياناً بصورة قصص الماضين.
﴿لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا﴾ بالنبات وذكر بتأويل البلد ﴿وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا﴾ جمع إنسي أو إنسان وأصله أناسين قلبت النون ياء.