لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير النجوى أو الهمس: لقد أشارت الآيات السابقة إِلى اجتماعات سرية شيطانية كان يعقدها بعض المنافقين أو أشباههم، وقد تطرقت الآية الأخيرة إِلى هذا الأمر بشيء من التفصيل، وكلمة "النجوى" لا تعني الهمس فقط، بل تطلق على كل اجتماع سري أيضاً، لأنّها مشتقة من المادة "نجوه" على وزن "دفعه" أي بمعنى الأرض المرتفعة، وبما أنّ الأرض المرتفعة تكون شبه معزولة عن الأراضي التي حولها، وأن الجلسات السرية والهمس يتمّان بمعزل عن الأفراد الذين يكونون في الأراضي المحيطة بها سمّيت هذه الأخيرة بالنجوى. ويرى بعضهم أنّ كلمة "النجوى" مشتقة من مادة "النجاة" أي التحرر، وبمعنى أن البقعة المرتفعة تكون بمنأى ومنجى عن خطر السيل، وإن الإِجتماع السري أو الهمس يكونان بمنجى من معرفة الآخرين. والآية هنا تذكر أنّ أغلب الإِجتماعات السرّية التي يعقدها اُولئك تهدف إِلى غايات شيطانية شريرة لا خير فيها ولا فائدة، إِذ تقول: (لا خير في كثير من نجواهم). يولكي لا يحصل وهم من أن كل نجوى أو همس أو اجتماع سري يعتبر عم مذموماً أو حراماً جاءت الآية بأمثال كمقدمة لبيان قانون كلي، وأوضحت الموارد التي تجوز فيها النجوى، مثل أن يوصي الإِنسان بصدقة أو بمعونة للآخرين أو بالقيام بعمل صالح أو أن يصلح بين الناس، فتقول الآية في هذا المجال: (إِلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إِصلاح بين الناس). فإِذا كان هذا النوع من النجوى أو الهمس أو الإِجتماعات السرّية لا يشوبه الرياء والتظاهر، بل كان مخصصاً لنيل مرضاة الله، فإِنّ الله سيخصص لمثل هذه الأعمال ثواباً وأجراً عظيماً، حيث تقول الآية: (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً). وقد عرف القرآن النجوى والهمس والإِجتماعات السرّية - من حيث المبدأ - بأنّها من الأعمال الشّيطانية، في قوله تعالى: (إِنّما النجوى من الشيطان...)(1)والسبب هو أنّ هذه الأعمال غالباً ما تحدث لأغراض سيئة، وحيث أنّ عمل الخير والشيء النافع والإِيجابي لا يحتاج في العادة إِلى أن يكون - أو يبقى - سرّياً أو مكتوماً عن الناس، ولذلك فلا حاجة بالتحدث عن مثل هذه الأعمال بالهمس والنجوى، أو في اجتماعات سرّية. ولمّا كان من المحتمل أن تطرأ ظروف استثنائية تجبر الإِنسان على الإِستفادة من أسلوب النجوى في أعمال الخير، لذلك ورد الإِستثناء بصورة مكررة في القرآن، كما في قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا إِذا تناجينم فلا تتناجوا بالإِثم والعدوان ومعصية الرّسول وتناجوا بالبرّ والتقوى...)(2). والنجوى إِذا حصلت إبتدأ في جمع من الناس، أثارت لديهم سوء الظّن حيالها، حتى أنّ سوء الظن قد يبدر من الأصدقاء حيال النجوى التي تحصل بينهم، وعلى هذا الأساس فإِنّ الأفضل أن لا يبادر الإِنسان إِلى النجوى إِلاّ إِذا اقتضت الضرورة ذلك، وهذه هي فلسفة هذا الحكم الوارد في القرآن. وبديهي أنّ سمعة الإِنسان تستلزم - أحياناً - اتباع أُسلوب النجوى، ومن جملة هذه الموارد تأتي مسألة الصدقات أو المعونات المالية، التي أجاز القرآن استخدام النجوى بشأنها لحفظ ماء الوجه وسمعة الأشخاص الذين يتلقون هذه المعونات. والمجال الآخر للنجوى هو عند الأمر بالمعروف، حيث أنّ هذا الأمر لو تمّ أحياناً بصورة علنية لأصبح سبباً في فضيحة أو خجل الشخص المخاطب بالمعروف بين الناس الحاضرين، وقد يصبح سبباً في أن يمتنع عن قبول ذلك ويقاوم هذا الأمر الذي عبّرت عنه الآية بالمعروف. والحالة الأُخرى التي يجوز فيها النجوى هي في مجال الإِصلاح بين الناس، الذي يقتضي أن يكون سرياً أحياناً لضمان تحقيقه، إِذ من الممكن لو أنّ الأمر تمّ بصورة علنية لحال دون حدوث الإِصلاح، لذلك يجب أن يتمّ الإِصلاح بالتحدث إِلى كل طرف من أطراف النزاع بصورة خفية، أي بطريق النجوى. إِذن فالنجوى جائزة وقد تكون ضرورية في الحالات الثلاث التي مر الحديث عنها، وكذلك في حالات مشابهة. والملفت للنظر في الحالات الثلاث المذكورة أعلاه هو أنّها تأتي كلها ضمن معنى "الصدقة" وذلك لأنّ من يأمر بالمعروف إِنّما يدفع زكاة علمه، ومن يسعى في إِصلاح ذات البين يدفع بذلك زكاة قدرته ومنزلته المؤثرة في الناس. وقد نقل عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: "إِنّ الله فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم"(3). ونقل عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله لأبي أيوب: "ألا أدلك على صدقة يحبّها الله ورسوله تصلح بين الناس إِذا تفاسدوا وتقرب بينهم إِذا تباعدوا"(4). ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ﴾ تناجيهم ﴿إِلاَّ﴾ نجوى ﴿مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ أو منقطع أي ولكن من أمر ففي نجواه الخير ﴿أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ فرض أو عمل بر أو إغاثة ملهوف أو صدقة تطوع ﴿أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ تأليف بينهم بالمودة ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ المذكور ﴿ابْتَغَاء﴾ طلب ﴿مَرْضَاتِ اللّهِ﴾ لا لغرض دنيوي ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ﴾ بالنون والياء ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾.