التّفسير
"المحاجّة" أن يسعى كلّ واحد في ردّ الآخر عن حجّته ومحجّته دفاعاً عن عقيدته.
من الطبيعيّ أن يقوم أتباع كلّ دين بالدفاع عن دينهم، ويرون أنّ الحقّ بجانبهم.
لذلك يخاطب القرآن رسول الله (ص) قائلاً: قد يحاورك أهل الكتاب (اليهود والنصارى...
) فيقولون إنّهم قد أسلموا بمعنى أنّهم قد استسلموا للحق، وربّما هم يصرّون على ذلك، كما فعل مسيحيّو نجران مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فالآية لا تطلب من رسول الله (ص) أن يتجنّب محاورتهم ومحاججتهم، بل تأمره أن يسلك سبيلاً آخر، وذلك عندما يبلغ الحوار منتهاه، فعليه لكي يهديهم ويقطع الجدل والخصام أن يقول لهم: إنّني وأتباعي قد أسلمنا لله واتّبعنا الحقّ
(فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن أتبعني).
ثمّ يسأل أهل الكتاب والمشركين إن كانوا هم أيضاً قد أسلموا لله واتّبعوا الحقّ فعليهم أن يخضعوا للمنطق (وقل للذين اُوتوا الكتاب والاُميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا) فإذا لم يستسلموا للحقيقة المعروضة أمامهم، فإنّهم لا يكونون قد أسلموا لله.
عندئذ لا تمضي في مجادلتهم، لأنّ الكلام في هذه الحالة لا تأثير له، وما عليك إلاَّ أن تبلّغ الرسالة لا غير (وإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ).
ومن الواضح أن المراد ليس هو التسليم اللساني والادعائي، بل التسليم الحقيقي والعملي في مقابل الحق، فلو أنهم خضعوا حقيقة للكلام الحق، فلابدّ أن يؤمنوا بدعوتك القائمة على المنطق والدليل الواضح، وإلاَّ فإنهم غير مستسلمين للحق.
والخلاصة: إن وظيفتك هي إبلاغ الرسالة المشفوعة بالدليل والبرهان، فلو كانت لديهم روحية البحث عن الحقيقة فسوف يؤمنون حتماً، وإلاَّ فإنك قد أديت واجبك تجاههم.
وفي الختام يقول: (والله بَصيرٌ بالعباد) فهو سبحانه يعلم المدّعي من الصادق وكذلك اغراض ودوافع المتحاجّين، ويرى أعمالهم الحسنة والقبيحة ويجازي كلّ شخص بعمله.
بحوث
1- يستفاد من الآية ضمنيّاً لزوم تجنّب مجادلة المعاندين الذين لا يخضعون للمنطق السليم.
2- المقصود بالأُميّين في هذه الآية هم المشركون، والسبب في وصف المشركين بالأُميّين في قبال أهل الكتاب- اليهود والنصارى- هو أنّ المشركين لا يملكون كتاباً سماوياً حتى يكون حافزاً لهم على تعلّم القراءة والكتابة.
3- يتّضح من هذه الآية بكلّ جلاء أنّ اُسلوب رسول الله (ص) لم يكن أُسلوب فرض الفكرة والعقيدة، بل كان اُسلوبه السعي إلى توضيح الحقائق أمام الناس، ثمّ يتركهم وشأنهم لكي يتّخذوا قرارهم في اتّباع الحقّ بأنفسهم.
﴿فَإنْ حَآجُّوكَ﴾ في الدين ﴿فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ﴾ أخلصت نفسي ﴿لِلّهِ﴾ عبر به عن النفس لأنه أشرف الأعضاء ﴿وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ عطف على التاء وحسن للفصل ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ﴾ من لا كتاب لهم كمشركي العرب ﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾ بعد وضوح الحجج أم كنتم على كفركم ومثله فهل أنتم منتهون وفيه توبيخ لهم بالمعاندة ﴿فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ﴾ نفعوا أنفسهم بإخراجهم من الضلال ﴿وَّإِن تَوَلَّوْاْ﴾ لم يضروك ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ﴾ لا الجدال ولا الإجبار على الإسلام ﴿وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ تهديد لمن لا يسلم.