سبب النّزول
جاء في تفسير "مجمع البيان" عن ابن عبّاس أنّه حدث على عهد رسول الله(ص) أن إرتكب يهودي الزنا مع إمرأة محصنة، على الرغم من أنّ ما جاء في التوراة يقضي بالرجم على أمثال هؤلاء، فإنّهما لم ينالا عقاباً لأنّهما كانا من الأشراف، واتّفقا على الرجوع إلى رسول الإسلام (ص) ليكون هو الحكم، آملين أن ينالا عقاباً أخف.
غير أنّ رسول الله (ص) أيّد العقاب المعيّن لهما، فاعترض بعض كبار اليهود على حكم الرسول (ص) وأنكروا أن يكون في اليهود مثل هذا العقاب.
فقال رسول الله (ص) "بيني وبينكم التوراة" فوافقوا، واستدعوا "ابن صوريا" أحد علمائهم، من فدك إلى المدينة، وعند وصوله عرفه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وسأله: أأنت ابن صوريا؟ قال: نعم.
فقال: أأنت أعلم علماء اليهود؟ قال: هكذا يحسبونني، فأمر رسول الله أن يفتحوا أمامه التوراة حيث ذكر الرجم ليقرأه، ولكنّه لمّا كان مطّلعاً على تفاصيل الحادث قرأ جانباً من التوراة، وعندما وصل إلى عبارة الرجم وضع يده عليها وتخطّاها ولم يقرأها وقرأ ما بعدها.
فأدرك "عبدالله بن سلام"- الذي كان من علماء اليهود ثمّ أسلم- مكر ابن صوريا وقام إليه ورفع يده عن الآية وقرأ ما كان قد أخفاه بيده، قائلاً: تقول التوراة: على اليهود، إذا ثبت زنا المحصن بالمحصنة رجماً.
فأمر رسول الله (ص) أن ينفّذ العقاب بحقّهما بموجب شريعتهم.
فغضب بعض اليهود، فنزلت هذه الآية بحقّهم(1).
التّفسير
هذه الآيات تصرّح ببعض تحريفات أهل الكتاب الذين كانوا يتوسّلون بالتبريرات والأسباب الواهية لتفادي إجراء حدود الله، مع أنّ كتابهم كان صريحاً في بيان حكم الله بغير إبهام، وقد دُعوا للخضوع للحكم الموجود في كتابهم (ألم تر إلى الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب يُدعَونَ إلى كتاب الله ليَحكُمَ بينهم).
ولكن عصيانهم كان ظاهراً ومصحوباً بالإعراض والطغيان واتّخاذ موقف المعارض لأحكام الله: (ثمّ يتولّى فريقٌ منهم وهم معرضون).
يمكن الإستنتاج من (أُوتوا نصيباً من الكتاب) أنّ ما كان بين أيدي اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل لم يكن كاملاً، بل كان قسم منهما بين أيديهم، بينما كان القسم الأعظم من هذين الكتابين السماويّين قد ضاع أو حُرِّف.
هذه الآية تؤيّدها آيات أُخرى في القرآن، كما أنّ هناك شواهد ودلائل تاريخية تؤكّد ما ذهبنا إليه.
وفي الآية الثانية شرح سبب عصيانهم وتمردّهم، وهو أنّهم كانوا يحملون فكرة خاطئة عن كونهم من عنصر ممتاز، وهم اليوم أيضاً يحملون هذه الفكرة الباطلة الواضحة في كتاباتهم الدالّة على الاستعلاء العنصري.
كانوا يظنّون أنّ لهم علاقة خاصّة بالله سبحانه، حتّى أنّهم سمّوا أنفسهم "أبناء الله" كما ينقل القرآن ذلك على لسان اليهود والنصارى في الآية 18 من سورة المائدة قولهم: (نحن أبناء الله وأحبّاؤه).
وبناءاً على ذلك كانوا يرون لأنفسهم حصانة تجاه العقوبات الربّانية، وكانوا ينسبون ذلك إلى الله نفسه.
لذلك كانوا يعتقدون أنّهم لن يعاقَبوا على ذنوبهم يوم القيامة إلاَّ لأيّام معدودات: (قالوا لن تمسّنا النار إلاَّ أيّاماً معدودات).
ولعلّ القصد من "الأيام المعدودات" هي الأربعون يوماً التي عبدوا فيها العجل في غياب موسى (عليه السلام)، وكان هذا ذنباً لم يكونوا هم أنفسهم قادرين على إنكاره.
أو لعلّها أيّام قليلة من أعمارهم إرتكبوا فيها ذنوباً كبيرة غير قابلة للإنكار، ولم يستطيعوا حتّى على إخفائها.
هذه الإمتيازات الكاذبة المصطنعة، التي أسبغوها على أنفسهم ونسبوها إلى الله، صارت شيئاً فشيئاً جزءاً من معتقداتهم بحيث إنّهم اغترّوا بها وراحوا يخالفونأحكام الله ويخرقون قوانينه مجترئين عليها جرأةً لا مزيد عليها (وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون).
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ لم ينالوا المدح والثناء وحقن الأموال والدماء ﴿وَالآخِرَةِ﴾ لم يستحقوا بها الأجر والثواب ﴿وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾ يدفعون عنهم العذاب.