﴿قَالَ رَبّ ِ اجْعَل لّيِ ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّام إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالاِْبْكَـارِ﴾
التّفسير
هنا يطلب زكريّا من الله إمارة على بشارته بمجيء يحيى.
إنّ إظهار دهشته ـكما قلنا- وكذلك طلب علامة من الله، لا يعنيان أبداً أنّه لا يثق بوعد الله، خاصّة وأنّ ذلك الوعد قد توكّد بقوله: (كذلك الله يفعل ما يشاء).
إنَّما كان يريد زكريّا أن يتحوّل إيمانه بهذا إيماناً شهودياً.
كان يريد أن يمتليء قلبه بالإطمئنان، كما كان إبراهيم يبحث عن اطمئنان القلب والهدوء الناشئين عن الشهود الحسّي.
(قال آيتك ألاَّ تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلاَّ رمزاً).
"الرمز" إشارة بالشفة، والصوت الخفي.
ثمّ اتّسع المعنى في الحوار العادي، فأُطلق على كلّ كلام وإشارة غير صريحة إلى أمر من الأُمور.
أجاب الله طلب زكريّا هذا أيضاً، وعيَّن له علامة، وهي أنّ لسانه كفّ عن الكلام مدّة ثلاثة أيّام بغير أيّ نقص طبيعي، فلم يكن قادراً على المحادثة العادية.
ولكن لسانه كان ينطلق إذا ما شرع يسبّح الله ويذكره.
هذه الحالة العجيبة كانت علامة على قدرة الله على كلّ شيء.
فالله القادر على فكّ لجام اللسان عند المباشرة بذكره، قادر على أن يفكّ عقم رحم امرأة فيخرج منه ولداً مؤمناً هو مظهر ذكر الله.
وهكذا تتّضح العلاقة بين هذه العلامة وما كان يريده زكريّا.
هذا المضمون يرد في الآيات الأُولى من سورة مريم أيضاً.
وفي الوقت نفسه يمكن أن تحمل هذه العلامة معنى آخر في طيّاتها، وهو أنّ إلحاح زكريّا على طلب العلامة والآية- وإن لم يكن أمراً محرّماً ولا مكروهاً- كان من نوع "ترك الأولى".
لذلك قرّر له علامة، إضافة إلى ما فيها من بيان لقدرة الله، طافحة بالإشارة إلى تركه للأولى.
يتبادر هنا للذهن سؤال: أيتّسق بكم نبيّ مع مقام النبوّة وواجب الدعوة والتبليغ؟
ليس من الصعب الإجابة على هذا السؤال، إذ أنّ هذه الحالة لا تتّسق مع مقام النبوّة عند استمرارها مدّة طويلة.
أمّا حدوثها لفترة قصيرة يستطيع النبيّ خلالها اعتزال الناس والتوجّه إلى عبادة الله، فلا مانع فيه، كما أنّه خلال هذه المدّة يستطيع أن يخاطب الناس بالإيماء في الأُمور الضرورية، أو بتلاوة آيات الله، التي تعتبر ذكراً لله، وتبليغاً للرسالة الإلهية.
وهذا ما قام به فعلاً، إذ كان يدعو الناس إلى ذكر الله بالإشارة.
(واذكر ربّك كثيراً وسبّح بالعشيّ والإبكار).
"العشي" تطلق عادة على أوائل ساعات الليل، كما يقال "الإبكار" للساعات الأولى من النهار.
وقيل إنّ "العشي" هو من زوال الشمس حتّى غروبها، و "الإبكار" من طلوع الفجر حتّى الظهر.
والراغب الاصفهاني يقول في "المفردات": إنّ "العشي" من زوال الشمس حتّى الصباح، و"الإبكار" أوائل النهار.
وفي الآية يأمر الله زكريّا بالتسبيح.
إنّ هذا التسبيح والذكر على لسان لا ينطق موقتاً دليل على قدرة الله على فتح المغلق، وكذلك هو أداء لفريضة الشكر لله الذي أنعم عليه بهذه النعمة الكبرى.
من الآيات الأُولى لسورة مريم يستفاد أنّ زكريّا لم ينفّذ هذا البرنامج وحده، بل طلب من الناس إيماءاً أن يسبّحوا الله صباح مساء شكراً على ما أنعم عليهم من موهبة ترتبط بمصير مجتمعهم ومن قائد كفوء مثل يحيى.
وأضحت هذه الأيام أيّام شكر وتسبيح عام.
﴿قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً﴾ علامة لوقت الحمل لأتلقاه بالشكر أو أعلم بها أن ذلك البشارة منك ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾ لا تقدر على تكليمهم ﴿ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ﴾ بلياليهن ﴿إِلاَّ رَمْزًا﴾ إشارة كان يومىء برأسه ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا﴾ في أيام المنع وفيه تأكيد لما قبله ﴿وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ﴾ من الزوال إلى الغروب ﴿وَالإِبْكَارِ﴾ من الفجر إلى الضحى.