سبب النّزول
نزلت هذه الآية بشأن يهوديّين أحدهما أمين وصادق، والآخر خائن منحط.
الأوّل هو "عبدالله بن سلام" الذي أودع عنده رجل 1200 أوقية(1) من الذهب أمانة.
ثمّ عندما استعادها ردّها إليه.
والله يثني عليه في هذه الآية لأمانته.
واليهوديّ الثاني هو "فنحاص بن عازورا" ائتمنه رجل من قريش بدينار، فخانه فيه.
والله يذمّه في هذه الآية لخيانته الأمانة.
وقيل إنّ القسم الأوّل من الآية يقصد جمعاً من النصارى، وأمّا الذين خانوا الأمانة فهم جمع من اليهود.
وقد تشير الآية إلى الحالتين، إذ أنّنا نعلم أنّ الآيات ـوإن كان لبعضها سبب نزول خاص- لها طابع عامّ وسبب النزول لا يخصّصها.
التّفسير
ترسم الآية ملامح أُخرى لأهل الكتاب.
كان جمع من اليهود يعتقدون أنّهم لا يكونون مسؤولين عن حفظ أمانات الناس، بل لهم الحقّ في تملّك أماناتهم! كانوا يقولون: إنّنا أهل الكتاب، وأن النبيّ والكتاب السماوي نزلا بين ظهرانينا، لذلك فأموال الآخرين غير محترمة عندنا.
لقد تغلغلت فيهم هذه الفكرة بحيث غدت عقيدة دينية راسخة.
وهذا ما يعبّر عنه القرآن بقوله (يقولون على الله الكذب) قال اليهود: إنّ لنا حقّ التصرّف بأموال العرب واغتصابها لأنّهم مشركون ولا يتّبعون دين موسى.
وقيل أيضاً إن اليهود كانت لهم مع العرب إتفاقات إقتصادية وتجارية وعندما أسلم العرب، إمتنع اليهود عن ردّ حقوقهم، قائلين: إنكم عند عقد الإتفاق لم تكونوا من مخالفينا.
أما وقد أتخذتم ديناً جديداً فقد سقط حقّكم.
من الجدير بالذكر أنّ هذه الآية تعلن أنّ أهل الكتاب لم يكونوا جميعاً ينهجون هذا الطراز من التفكير غير الإنساني، بل كان فيهم جماعة ترى أنّ من واجبها أن تؤدّي حقّ الآخرين.
ولذلك فإنّ القرآن لم يدنهم جميعاً ولم يلق تبعة أخطاء بعضهم على الجميع، ولذلك يقول (ومن أهل الكتاب مَن إن تأمنه بقنطار(2) يؤدّه إليك ومنهم مَن إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلاَّ ما دمت عليه قائماً).
إنّ تعبير (إلاَّ ما دمت عليه قائماً) أي واقفاً ومسيطراً، يشير إلى مبدأ أصيل في نفسيّة اليهود، فكثير منهم لا يجدون أنفسهم ملزمين بردّ حقّ إلاَّ بالقوّة.
ليس أمام المسلمين لاسترجاع حقوقهم منهم سوى هذا السبيل، سبيل السعي للحصول على القوّة التي تجعلهم يردّون حقوقهم.
إنّ الحوادث التي جرت في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ القرارات الدولية والرأي العام العالمي، وقضايا الحقّ والعدالة وأمثالها، لا قيمة لها في نظر الصهاينة ولا معنى، وما من شيء يحملهم على الخضوع للحقّ سوى القوّة.
وهذه من المسائل التي تنبّأ بها القرآن.
(ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأُمّيّين سبيل).
هذه الآية تبيّن منطقهم في أكل أموال الناس، وهو قولهم بأنّ "لأهل الكتاب" أفضلية على "الأُميّين" أي على المشركين والعرب الذين كانوا أُمّيّين غالباً أو أن المقصود كلّ من ليس له نصيب من قراءة التوراة والإنجيل، لذلك يحقّ لهم أن يستولوا على أموال الآخرين، وليس لأحد الحقّ أن يؤاخذهم على ذلك، حتّى أنّهم ينسبون إلى الله تقرير التفوّق الكاذب.
لاشكّ أنّ هذا المنطق كان أخطر بكثير من مجرّد خيانة الأمانة، لأنّهم كانوا يرون هذا حقّاً من حقوقهم، فيشير القرآن إلى هذا قائلاً:
(ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون).
هؤلاء يعلمون أنّه ليس في كتبهم السماوية أيّ شيء من هذا القبيل بحيث يجيز لهم خيانة الناس في أموالهم، ولكنّهم لتسويغ أعمالهم القبيحة راحوا يختلقون الأكاذيب وينسبونها إلى الله.
الآية التالية تنفي مقولة اليهود (ليس علينا في الأُميّيّن سبيل) التي قرّروا فيها لأنفسهم حرّية العمل، فاستندوا إلى هذا الزعم المزيّف للإعتداء على حقوق الآخرين بدون حقّ.
﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ كعبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه ﴿وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ كفنحاص بن عازورا استودعه قرشي دينارا فجحده ﴿إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا﴾ تطالبه بالعنف ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ﴾ في مال من ليس من أهل الكتاب ﴿سَبِيلٌ﴾ عقاب وذم ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ﴾ بما ادعوا ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ كذبهم.