لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وفي الآية الأخيرة يذم ويهدد القرآن الكريم ناقضي العهود ويقول: (فمن تولى بعد ذلك فأُولئك هم الفاسقون). فلو أن أحداً بعد كلّ هذا التأكيد على أخذ المواثيق والعهود المؤكّدة- أعرض عن الإيمان بنبيّ كنبيّ الإسلام الذي بشرت به الكتب القديمة وذكرت علائمه، فهو فاسق وخارج على أمر الله تعالى. ونعلم أن الله لايهدي الفاسقين المعاندين، كما مرّ في الآية 80 من سورة التوبة: (والله لا يهدي القوم الفاسقين)، ومن لا يكون له نصيب من الهداية الإلهيّة، فإن مصيره إلى النار. هنا ثلاث نقاط لابدّ أن ننتبه لها: 1- هل هذه الآية مقصورة على بشارة الأنبياء السابقين وميثاقهم بالنسبة لنبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، أم أنّها تشمل كلّ نبيّ يبعث بعد نبيّ قبله؟ يظهر من الآية أنّها تعبّر عن مسألة عامّة، وإن كان خاتم الأنبياء مصداقها البارز. كما أنّ هذا المعنى الواسع يتّسق مع روح مفاهيم القرآن. لذلك إذا ما رأينا في بعض الأخبار أنّ المقصود هو نبيّ الإسلام الكريم، فما ذلك إلاَّ من قبيل تفسير الآية وتطبيقها على أجلى مصاديقها، وليس لأنّ المعنى جاء على سبيل الحصر. ينقل الفخر الرازي في تفسيره عن الإمام علي (عليه السلام) قال: "إنّ الله تعالى ما بعث آدم (عليه السلام) ومن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلاَّ أخذ عليهم العهد لئن بعث محمّد عليه الصلاة والسلام وهو حي، ليؤمننّ به ولينصرنّه"(2). 2- بعد أخذ مضمون الآية بنظر الإعتبار، يبرز هذا السؤال: أيمكن أن يظهر نبيّ من أُولى العزم في زمان نبيّ آخر من أُولي العزم حتّى يتبعه؟ يمكن القول في جواب هذا السؤال: إنّ الميثاق لم يؤخذ من الأنبياء وحدهم، بل ومن أتباعهم أيضاً، كما قلنا في تفسير الآية، والواقع أنّ القصد من أخذ الميثاق من الأنبياء وأخذه من أُممهم والأجيال التي تولد بعدهم وتدرك عصرالنبيّ التالي. كما أنّ الأنبياء أنفسهم يؤمنون أيضاً إذا أدركوا- فرضاً- عهدالأنبياء التالين. أي أنّ أنبياء الله لا ينفصلون إطلاقاً في أهدافهم وفي دعوتهمولا صراع أو خلاف بينهم. 3- والقول الأخير بشأن هذه الآية هو أنّها وإن تكن بخصوص الأنبياء، فهي تصدق طبعاً بحقّ خلفائهم أيضاً، إذ أنّ خلفائهم الصادقين لا ينفكّون عنهم، وهم جميعاً يسعون لتحقيق هدف واحد. ولذلك كان الأنبياء يعيّنون خلفائهم، ويبشّرون الناس بهم ويدعونهم إلى الإيمان بهم وشدّ أزرهم. ولئن وجدنا بعض الروايات الواردة في تفاسيرنا لهذه الآية وكتب أحاديثنا بشأن نزول عبارة "ولتنصرنّه" في علي (عليه السلام) وأنها تشمل قضية الولاية، إنّما هو إشارة إلى هذا المعنى. ولابدّ أن نشير إلى أنّ هذه الآية- من حيث تركيبها النحوي- كانت موضع بحث بين المفسّرين ورجال الأدب(3). 4- التعصّب المقيت يحدّثنا التاريخ أنّ أتباع دين من الأديان لا يتخلّون بسهولة عن دينهم ولا يستسلمون للأنبياء الجدد المبعوثين من قبل الله، بل يتمسّكون بدينهم القديم تمسّكاً جافّاً جامداً، ويدافعون عنه كأنّه جزء من وجودهم، ويرون تركه إبادة لقوميّتهم. لذلك يشقّ عليهم القبول بالدين الجديد. إنّ منشأ الكثير من الحروب الدينية التي وقعت على امتداد التاريخ- وهي من أفظع حوادث التاريخ- هو هذا التعصّب الجاف والجمود على الأديان القديمة. غير أنّ قانون الإرتقاء والتكامل يقول: هذه الأديان يجب أن تأتي الواحد تلو الآخر، وتتقدّم بالبشرية في سيرها نحو معرفة الله والحقّ والعدالة والإيمان والأخلاق والإنسانية والفضيلة، حتّى تصل إلى الدين النهائي، خاتم الأديان، كالطفل الذي يتدرّج في مراحل الدراسة ويطويها الواحدة بعد الأُخرى حتّى يتخرّج من الكليّة والجامعة. فإذا أحبّ التلاميذ جوّ مدرستهم الإبتدائية ذلك الحبّ الذي يربطهم بمدرستهم إلى درجة أنّهم يرفضون الإنتقال إلى المدرسة الثانوية، فبديهيّ أنّ لا يكون نصيب هؤلاء سوى التخلّف عن ركب السائرين نحو التقدّم والإرتقاء. إنّ إصرار الآية على أخذ الميثاق والعهد المؤكّد من الأنبياء والأُمم الماضية نحو الأنبياء التالين لهم قد يكون من أجل اجتناب أمثال هذا التعصّب والجمود والعناد. ولكنّ الذي يؤسف له أنّنا- بعد كلّ هذا التأكيد- ما زلنا نرى أتباع الأديان القديمة لا يسلّمون بسهولة أمام الحقائق الجديدة. سوف نشرح إن شاء الله في تفسير الآية 40 من سورة الأحزاب كيف يكون الإسلام آخر الأديان وخاتمها ولماذا؟ الآيات 83 - 85 ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَـاوَاتِ وَالاَْرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ ءَامَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاَْسْبَاطِ وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعيسى والنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ *وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاِْسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَْخِرَةِ مِنَ الْخَـاسِرِينَ *﴾ التّفسير الإسلام أفضل الأديان الإلهيّة: مرّت بنا حتّى الآن بحوث مسهبة في الآيات السابقة عن الأديان الماضية. وابتداءاً من هذه الآية يدور البحث حول الإسلام وفيها إلفات لأنظار أهل الكتاب وأتباع الأديان السابقة إلى الإسلام. تبدأ الآية بالتساؤل: (أفغير دين الله يبغون) أيريد هؤلاء ديناً غير دين الله؟ وما دين الله سوى التسليم للشرائع الإلهية، هي كلّها قد جمعت بصورتها الكاملة الشاملة في دين نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم). فإذا كان هؤلاء يبحثون عن الدين الحقيقي فعليهم أن يسلموا. (وله أسلمَ مَن في السماوات والأرض). يبدأ القرآن بتفسير الإسلام بمعناه الأوسع، فيقول: كلّ مَن في السماوات والأرض، أو جميع الكائنات في السماوات والأرض، مسلمون خاضعون لأوامره (طوعاً وكرهاً). هذا الإستسلام والخضوع يكون "طوعاً" أو إختيارياً أحياناً، إزاء "القوانين التشريعية"، ويكون "كرهاً" أو إجبارياً أحياناً أُخرى، إزاء "القوانين التكوينية". ولتوضيح ذلك نقول: إنّ لله نوعين من الأمر في عالم الوجود. فبعض أوامره يكون بشكل (قوانين طبيعية وما وراء طبيعية) تحكم على مختلف كائنات هذا العالم، فهي خاضعة لها خضوع إكراه وليس لها أن تخالفها لحظة واحدة، فإن فعلت- فرضاً- يكتب لها الفناء والزوال. هذا نوع من "الإسلام والتسليم" أمام أمر الله. وبناءً على هذا فإنّ أشعة الشمس التي تسطع على البحار، وبخار الماء الذي يتصاعد منها، وقطع السحاب التي تتواصل، وقطرات المطر التي تنزل من السماء والنباتات التي تنمو بها، والزهور التي تتفتح لها، جميعها مسلّمة، لأنّ كلاًّ منها قد أسلم للقوانين التي فرضها عليها قانون الخليقة. والنوع الآخر من أوامر الله هي "الأوامر التشريعية" وهي القوانين التي ترد في الشرائع السماوية وتعاليم الأنبياء. إنّ التسليم أمامها تسليم "طوعي" أو إختياري. فالمؤمنون الذين يسلمون لها إنّما هم وحدهم المسلمون. إنّ مخالفة هذه القوانين والشرائع لا تقلّ- على كلّ حال- عن مخالفة القوانين التكوينية، لأنّ مخالفتها تبعث على الإنحطاط والتخلّف والعدم. ولمّا كانت "أسلم" مستعملة في هذه الآية بالمعنى الأوسع للإسلام، أي المعنى الذي يشمل النوعين من أوامر الله، لذلك فهي تقول إنّ فريقاً يسلم طوعاً ـكالمؤمنين- وفريقاً يسلم كرهاً- كالكافرين- أمام القوانين التكوينية. وهكذا نجد أنّ الكافرين الذين يمتنعون عن التسليم أمام بعض أوامر الله مجبرين على التسليم أمام بعض آخر من أوامر الله. فلماذا إذاً لا يسلمون لجميع قوانين الله ودينالحقّ؟ هناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية ذكره كثير من المفسّرين، وإن لم يتعارض مع ما قلناه آنفاً، وهو: أنّ المؤمنين وهم في حال من الرفاه والهدوء يسيرون نحو الله بملء إختيارهم. أمّا غير المؤمنين فلا يسيرون نحو الله إلاَّ عندما تحيق بهم البلايا والمشكلات التي لا تطاق، فيدعونه ويتوسّلون إليه، فمع أنّهم في الظروف العادية يشركون به، فإنّهم في الشدائد والملمّات لا يتوجّهون إلاَّ إليه. ويتضح ممّا تقدّم أن "مَن" في جملة (من في السماوات والأرض) تشمل الموجودات العاقلة وغير العاقلة، فبالرغم من كونها تستعمل عادة للعقلاء، إلاَّ أنها قد تكون عامّة للتغليب. و "طوعاً" إشارة إلى الموجودات العاقلة المؤمنة، و "كرهاً" إشارة إلى الكفّار وغير العقلاء. (قل آمنّا بالله وما أُنزل علينا...). في هذه الآية يأمر الله النبيّ والمسلمين بأنّهم، فضلاً عن إيمانهم بما أُنزل على رسول الإسلام، عليهم أن يظهروا إيمانهم بكلّ الآيات والتعليمات التي نزلت على الأنبياء السابقين، وأن يقولوا: إنّنا لا نفرّق بينهم من حيث صدقهم وعلاقتهم بالله. إنّنا نعترف بالجميع، فهم جميعاً كانوا قادة إلهيّين، وهم جميعاً بُعثوا لهداية الناس. إنّا نسلم بأمر الله من جميع النواحي، وبذلك نقطع أيدي المفرّقين. ﴿فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ الميثاق ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.