لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
أول بيت وضع للناس: لقد أنكرت اليهود على النبي (ص) أمرين كما أسلفنا. وقد رد القرآن على الأمر الأول في الآيات الثلاث المتقدمة، وها هو يرد على الأمر الثاني، وهو: إنكارهم على النبي اتخاذه الكعبة قبلة، وتفضيله لها على "بيت المقدس" بينما كانوا يفضلونه على الكعبة. يقول سبحانه: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً) فلا عجب إذن أن تكون الكعبّة قبلة للمسلمين، فهي أول مركز للتوحيد، وأقدم معبد بني على الأرض ليعبد فيه الله سبحانه ويوحد، بل لم يسبقه أي معبد آخر قبله، إنه أول بيت وضع للناس ولأجل خير المجتمع الإنساني في نقطة من الأرض محفوفة بالبركات، غنية بالخيرات، وضع ليكون مجتمع الناس، وملتقاهم. إن المصادر الإسلامية والتاريخية تحدثنا بأن الكعبة تأسست على يدي "آدم"(عليه السلام) ثمّ تهدمت بسبب الطوفان الذي وقع في عهد النبي "نوح" ثمّ جدد بناءها النبي العظيم "إبراهيم الخليل" (عليه السلام) فهي إذن عريقة عراقة التاريخ البشري(1). ولاشكّ أن إختيار أعرق بيت اُسس للتوحيد من أجل أن يكون قبلة للمسلمين، أولى وأفضل من إختيار أية نقطة أُخرى وأي مكان آخر. هذا وممّا يجدر الإنتباه إليه هو أن "الكعبة" والتي تسمى في تسمية أُخرى بـ"بيت الله" وصفت في هذه الآية بأنها "بيت للناس"، وهذا التعبير يكشف عن حقيقة هامة وهي: أن كلّ ما يكون باسم الله ويكون له، يجب أن يكون فى خدمة الناس من عباده، وأن كلّ ما يكون لخدمة الناس وخير العباد فهو لله سبحانه. كما تتضح- ضمن ما نستفيده من هذه الآية- قيمة الأسبقية في مجال العلاقات بين الخلق والخالق، ولذلك نجد القرآن يشير- في هذه الآية- إلى أسبقية الكعبة على جميع الأماكن الأُخرى، وإلى تاريخها الطويل الضارب في أعماق الزمن، معتبراً ذلك أول وأهم ما تتسم به الكعبة من الفضائل والمزايا، ومن هنا يتضح أيضاً علّة ما للحجر الأسود من الحرمة، ويتبين جواب مايحوم حوله من سؤال مفاده: ما قيمة قطعة من الحجر ولماذا يندفع ويتدافع لإستلامه ملايين الناس كلّ عام، ويتسابقون- في عناء بالغ- إليه حتّى أن إستلامه يعد من المستحبات المؤكّدة في مناسك الحجّ وبرامجه؟ إن تاريخ هذا الحجر يكشف عن ميزة خاصة في هذا الحجر لا نجدها في أي حجر آخر غيره في هذا العالم، وهي أن هذا الحجر أسبق شيء استخدم كمادة إنشائية في أقدم بيت شيد لعبادة الله، وتقديسه، وتوحيده، فإننا نعلم بأن جميع المعابد حتّى الكعبة قد فقدت موادها الإنشائية في كلّ عملية إنهدام وتجديد، عدا هذه القطعة من الصخر التي بقيت منذ آلاف السنين، واستخدمت في بناء هذه البنية المعظمة على طول التاريخ منذ تأسيسها وإلى الآن. ولا شكّ أن لهذه الإستمرارية، وتلك الأسبقية في طريق الله وفي خدمة الناس قيمة وأهمية من شأنها أن تكسب الأشياء والأشخاص ميزة لا يمكن تجاهلها. كلّ هذا مضافاً إلى أن هذه الصخرة ليست إلاَّ تاريخ صامت لأجيال كثيرة من المؤمنين في الأعصر المختلفة، فهي تحيي ذكرى إستلام الأنبياء العظام وعباد الله البررة لها، وعبادتهم، وتضرعهم إلى الله في جوارها عبر آلاف السنين ومئات من القرون والأحقاب. على أن ثمّة أمراً آخر ينبغي الإنتباه إليه وهو: أن الآية المبحوثة هنا تصرح بأن الكعبة هي أول بيت وضع للناس، ومن المعلوم أنه وضع لغرض العبادة فهو أول بيت وضع للعبادة إذن، وهو أمر لايمنع من أن يكون قد شيدت في الأرض قبل الكعبة بيوت للسكن. وهذا التعبير رد واضح على كلّ أولئك(2) الذين يدعون أن النبي إبراهيم (عليه السلام)هو أول من أسس الكعبة المشرفة، ويعتبرون بناءها على يدي آدم (عليه السلام) من قبيل الأساطير، في حين أن من المسلم وجود بيوت للعبادة في العالم قبل إبراهيم (عليه السلام)كان يتعبد فيها من سبقه من الأنبياء مثل نوح (عليه السلام) فكيف تكون الكعبة التي هي أول بيت وضع للعبادة في العالم قد أسست على يدي إبراهيم (عليه السلام)؟ ما هو المراد من "بكّة"؟ "بكة" مأخوذة أصلاً من "البك" وهو الزحم، وبكه أي زحمه، وتباك الناس أي ازدحموا، وإنما يقال للكعبة أو الأرض التي عليها تلك البنية المعظمة بكة لإزدحام الناس هناك، ولا يستبعد أن هذه التسمية أطلقت عليها بعد أن اتخذت صفة المعبد رسمياً لا قبل ذلك. وفي رواية عن أبي عبدالله (الصادق) (عليه السلام) قال: "موضع البيت بكة، والقرية مكة". وقد إحتمل بعض المفسّرين أيضاً أن تكون "بكة" هي "مكة" أبدل ميمها باء، نظير "لازب" و "لازم" اللتين تعنيان شيئاً واحداً في لغة العرب. وقد ذكر في علة تسمية "الكعبة" وموضعها ببكة وجه آخر أيضاً هو أنها سميت "بكة" لأنها تبك أعناق الجبابرة، وتحطم غرورهم ونخوتهم، لأن البك هو دق العنق، فعند الكعبة تتساقط وتزول كلّ الفوارق المصطنعة، ويعود المتكبرون والمغرورون كبقية الناس، عليهم أن يخضعوا لله، ويتضرعوا إليه شأنهم شأن الآخرين، وبهذا يتحطم غرورهم. بحث تاريخي توسيع المسجد الحرام: منذ العهد النبوي أخذ عدد المسلمين في الإزدياد، وعلى أثر ذلك كان يتزايد عدد الحجاج والوافدين إلى البيت الحرام، ولهذا كان المسجد الحرام يتعرض للتوسعة المستمرة على أيدي الخلفاء في العصور المختلفة، فقد جاء في تفسير العيّاشي أن أبا جعفر (المنصور) طلب أن يشتري من أهل مكة بيوتهم ليزيدها في المسجد، فأبوا فأرغبهم، فامتنعوا فضاق بذلك، فأتى أبا عبدالله (الصادق) (عليه السلام) فقال له: إني سألت هؤلاء شيئاً من منازلهم، وأفنيتهم لنزيد في المسجد، وقد منعوني ذلك فقد غمني غماً شديداً، فقال أبو عبدالله (عليه السلام): أيغمك ذلك وحجتك عليهم فيه ظاهرة؟ فقال: وبما أحتج عليهم؟ فقال: بكتاب الله، فقال: في أي موضع؟ فقال: قول الله عزّوجلّ: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) قد أخبرك الله أن أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة، فإن كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، وإن كان البيت قبلهم فله فناؤه، فدعاهم أبو جعفر (المنصور) فاحتج عليهم بهذا فقالوا له أصنع ما أحببت. وقد جاء في ذلك التفسير أيضاً أن المهدي (العباسي) لما بنى في المسجد الحرام بقيت دار احتج إليها في تربيع المسجد، فطلبها من أربابها فامتنعوا فسأل عن ذلك الفقهاء فكلّ قال له: إنه لا ينبغي أن يدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً، فقال له علي بن يقطين: يا أميرالمؤمنين لو أنك كتبت إلى موسى بن جعفر (عليه السلام)لأخبرك بوجه الأمر في ذلك، فكتب إلى والي المدينة أن يسئل موسى بن جعفر(عليه السلام) عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع علينا صاحبها فكيف المخرج من ذلك؟ فقال: ذلك لأبي الحسن (عليه السلام): فقال أبو الحسن (عليه السلام): ولابدّ من الجواب في هذا؟ فقال له: الأمر لابدّ منه، فقال له: اكتب "بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها" فلما أتى الكتاب إلى المهدي أخذ الكتاب فقبله (لفرحه الشديد)، ثمّ أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أبا الحسن (عليه السلام)فسألوه أن يكتب لهم إلى المهدي كتاباً في ثمن دورهم فكتب إليه أن ارضخ لهم شيئاً فارضاهم. إن في هاتين الروايتين استدلالاً لطيفاً يتفق تماماً مع المقاييس والموازين القانونية المعمول بها أيضاً، فإن الإستدلال يقول; ان لمعبد تقصده الجماهير كالكعبة، قد بني يوم بني على أرض لا أحد فيها، الحق والأولوية في تلك الأرض بقدر حاجته وحيث إن الحاجة يوم اُسس لم تكن تدعو إلى أكثر من تلك المساحة التي أقيم عليها أول مرّة كان للناس أن يسكنوا في حريم الكعبة، أما الآن وقد اشتدت الحاجة إلى مساحة أوسع كما كانت عليه لتسع الحجيج، فإن للكعبة الحقّ في أن تستخدم أولويتها بالأرض. مزايا الكعبة وفضائلها: لقد ذكرت في هاتين الآيتين- مضافاً إلى الميزتين اللتين مرّ شرحهما- أربع مزايا اُخرى هي: 1- مباركاً: "المبارك" يعني كثير الخير والبركة، وإنما كانت الكعبة المعظمة مباركة لأنها تعتبر بحق واحدة من أكثر نقاط الأرض بركة وخيراً، سواء الخير المادي، أو المعنوي. وأما البركات المعنوية التي تتحلى بها هذه الأرض وهذه المنطقة من إجتماع الحجيج فيها، وما ينجم عن ذلك من حركة وتفاعل ووحدة، وما يصحبه من جاذبية ربانية تحيي الأنفس والقلوب وخاصة في موسم الحج فمما لا يخفى على أحد. ولو أن المسلمين لم يقصروا إهتمامهم- في موسم الحج- على الجانب الصوري لهذه الفريضة بل أحيوا روحها، والتفتوا إلى فلسفتها، لاتضحت ـحينذاكـ البركات المعنوية، وتجلت للعيان أكثر فأكثر. هذا من الناحية المعنوية. وأما من الناحية المادية فإن هذه المدينة رغم أنها اُقيمت في أرض قاحلة لا ماء فيها ولا عشب، ولا صلاحية فيها للزراعة والرعي بقيت على طول التاريخ واحدة من أكثر المدن عمراناً وحركة، وكانت دائماً من المناطق المؤهلة- خير تأهيل- للحياة، بل وللتجارة أيضاً. 2- هدى للعالمين: أجل، إن الكعبة هدى للعالمين فهي تجتذب الملايين من الناس الذين يقطعون إليها البحار والوهاد، ويقصدونها من كلّ فج عميق ليجتمعوا في هذا الملتقى العبادي العظيم وهم بذلك يقيمون هذه الفريضة فريضة الحجّ التي لم تزل تؤدي بجلال عظيم منذ عهد الخليل (عليه السلام). ولقد كانت هذه البنية معظمة أبداً حتّى من قبل العرب الجاهليين، فهم كانوا يحجون إليها وإن مزجوا مناسك الحجّ ببعض خرافاتهم وعقائدهم الباطلة، إلاَّ أنهم ظلوا أوفياء لهذه المناسك على أنها دين إبراهيم، وقد كان لهذه المناسك والمراسم الناقصة، والخليطة أحياناً بالخرافات الجاهلية، أثرها في سلوكهم، حيث كانوا يرتدعون بسببها عن بعض المفاسد بعض الوقت، وهكذا كانت الكعبة سبباً للهداية حتّى للوثنيين... إن لهذا البيت من الجواذب المعنوية ما لا يستطيع أي أحد أن يقاومها ويصمد أمام تأثيرها الأخّاذ. ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ ليكون متعبدا لهم ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ لغة في مكة وقيل موضع المسجد ومكة البلد من البك أي الزحم أو الدق للازدحام فيها ودقها أعناق العتاة وعنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أول مسجد وضع المسجد الحرام ثم بيت المقدس، وعن علي (عليه السلام) كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع للعبادة ﴿مُبَارَكًا﴾ كثير الخير والنفع ﴿وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ لأنه قبلتهم ومتعبدهم.