لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
جاءت "الآية الثانية" تدعوهم بصراحة إلى مسألة الإتحاد، والوقوف في وجه كلّ ممارسات التجزئة وإيجاد الفرقة، فقال سبحانه في هذه الآية (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا). ولكن ما المقصود من "حبل الله" في هذه الآية؟ فقد ذهب المفسّرون فيه إلىإحتمالات مختلفة، فمنهم من قال بأنه القرآن، ومنهم من قال: بأنه الإسلام،ومنهم من قال بأنهمالأئمّة المعصومون من آل الرسول وأهل بيتهالمطهرين. وقد وردت كلّ هذه المعاني في روايات منقولة عن النبي (ص) والأئمّة من أهل بيته (عليهم السلام). ففي تفسير "الدرّ المنثور" عن النبي الأكرم (ص) وفي كتاب "معاني الأخبار" عن الإمام السجّاد أنهما قالا: "كتاب الله حبل ممدود من السماء". وروى عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: "آل محمّد (عليهم السلام) هم حبل الله الذي أمرنا بالإعتصام به فقال: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا". ولكنه ليس هناك- في الحقيقة- أي إختلاف وتضارب بين تلك الأقوال والأحاديث لأن المراد من الحبل الإلهي هو كلّ وسيلة للإرتباط بالله تعالى سواء كانت هذه الوسيلة هي الإسلام، أم القرآن الكريم، أم النبي وأهل بيته الطاهرين. وبعبارة اُخرى فإن كلّ ما قيل يدخل بأجمعه في مفهوم ما يحقق "الإرتباط بالله" سبحانه- الواسع- والذي يستفاد من معنى حبل الله. التعبير بـ "حبل الله" لماذا؟ إن النقطة الجديرة بالإهتمام في هذه الآية هو التعبير عن هذه الأُمور بحبل الله، فهو إشارة إلى حقيقة لطيفة وهامة، وهي أن الإنسان سيبقى في حضيض الجهل، والغفلة، وفي قاع الغرائز الجامحة إذا لم تتوفر له شروط الهداية، ولم يتهيأ له الهادي والمربي الصالح فلابدّ للخروج من هذا القاع، والإرتفاع من هذا الحضيض من حبل متين يتمسك به ليخرجه من بئر المادية والجهل والغفلة، وينقذه من أسر الطبيعة، وهذا الحبل ليس إلاَّ حبل الله المتين، وهو الإرتباط بالله عن طريق الأخذ بتعاليم القرآن الكريم والقادة الهداة الحقيقيين، التي ترتفع بالناسمنحضيضالحضيضإلىأعلى الذرى في سماء التكامل المادي والمعنوي. أعداء الأمس وإخوان اليوم: ثمّ إن القرآن بعد كلّ هذا يعطي مثالاً حيّاً من واقع الأُمة الإسلامية لأثر الإرتباط بالله وهو يذكر- في نفس الوقت- بنعمة الإتحاد والأُخوة- تلك النعمة الكبرى- ويدعو المسلمين إلى مراجعة الماضي المؤسف، ومقارنة ذلك الإختلاف والتمزق بهذه الوحدة القوية الصلبة ويقول: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً). والملفت للنظر هو تكرار كلمة (نعمة) في هذه الآية مرتين وهو إشعار بأهمية الوحدة هذه الموهبة الإلهية التي لا تحققّ إلاَّ في ظل التعاليم الإسلامية والإعتصام بحبل الله. والنقطة الأُخرى الجديرة بالإهتمام أيضاً هي أن الله نسب تأليف قلوب المؤمنين إلى نفسه فقال (فألف بين قلوبكم) أي أن الله ألف بين قلوبكم، وبهذا التعبير يشير القرآن الكريم إلى معجزة إجتماعية عظيمة للإسلام، لأننا لو لاحظنا ما كان عليه العرب والمجتمع الجاهلي من عداوات وإختلافات وما كان يكمن في القلوب من أحقاد طويلة عميقة وما تراكم فيها من ضغائن مستحكمة، وكيف أن أقل شرارة صغيرة أو مسألة جزئية كانت تكفي لتفجير الحروب، وإندلاع القتال في ذلك المجتمع المشحون بالأحقاد، وخاصة بالنظر إلى تفشي الأمية والجهل الملازم عادة للإصابة باللجاج والعناد والعصبية، فإن أفراداً من هذا النوع من الصعب أن يتناسوا أبسط أُمورهم فكيف بالأحداث الدامية الكبرى؟ ومن هنا تتجلى أهمية المعجزة الإجتماعية التي حققها الإسلام حيث وحد الصفوف، وألف بين القلوب، وأنسى الأحقاد، تلك المعجزة التي أثبتت أن تحقيق مثل هذه الوحدة وتأليف تلك القلوب المتنافرة المتباغضة، وإيجاد أُمة واحدة متآخية من ذلك الشعب الممزق الجاهل ما كان ليتيسر في سنوات قليلة بالطرق والوسائل العادية. اعتراف العلماء والمؤرخين: وقد كانت أهمية هذا الموضوع (أي وحدة القبائل العربية المتباغضة بفضل الإسلام) إلى درجة أنها لم تخف على العلماء والمؤرخين، حتّى غير المسلمين منهم، فقد اتفق الجميع في الإعجاب بهذه المسألة، وإظهارها في كتاباتهم، وها نحن نذكر نماذج من ذلك: يقول "جان ديون پورث" العالم الإنجليزي المشهور: "لقد حول محمّد العربي البسيط، القبائل المتفرقة والجائعة، الفقيرة في بلدة إلى مجتمع متماسك منظم، إمتازت، فيما بعد- بين جميع شعوب الأرض بصفات وأخلاق عظيمة وجديدة، واستطاع في أقل من ثلاثين عاماً وبهذا الطريق أن يتغلب على الامبراطورية الرومانية، ويقضي على ملوك إيران، ويستولي على سوريا وبلاد ما بين النهرين، وتمتد فتوحاته إلى المحيط الأطلسي وشواطىء بحر الخزر وحتى نهر سيحان (في جنوب شرقي آسيا الوسطى)(1). ويقول توماس كارليل: "لقد أخرج الله العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور وأحيى به منها أمة خاملة لا يسمع لها صوت ولا يحس فيها حركة حتّى صار الخمول شهرة، والغموض نباهة، والضعة رفعة، والضعف قوّة، والشرارة حريقاً، وشمل نوره الأنحاء، وعم ضوؤه الأرجاء وما هو إلاَّ قرن بعد إعلان هذا الدين حتّى أصبح له قدم في الهند، وأُخرى في الأندلس، وعم نوره ونبله وهداه نصف المعمورة"(2). ويقول الدكتور "غوستاف لوبون": معترفاً بهذه الحقيقة: "... وإلى زمان وقوع هذه الحادثة المدهشة (يعني الإسلام) الذي أبرز العربي فجأة في لباس الفاتحين، وصانعي الفكر والثقافة لم يكن يعد أن جزء من أرض الحجاز من التاريخ الحضاري ولا أنه كان يتراءى فيها للناظر أي شيء أو علامة للعلم والمعرفة، أو الدين"(3). ويكتب "نهرو" العالم والسياسي الهندي الراحل في هذا الصدد قائلاً: "إن قصة إنتشار العرب في آسيا وأوروبا وأفريقيا والحضارة الراقية والمدنية الزاهرة التي قدموها للعالم اُعجوبة من أعجوبات التاريخ، ولقد كان محمّد واثقاً بنفسه ورسالته، وقد هيأ بهذه الثقة وهذا الإيمان لأُمته أسباب القوّة والعزّة والمنعة"(4). لقد كان وضع العرب سيئاً إلى أبعد الحدود حتّى أن القرآن يصف تلك الحالة بأنهم كانوا على حافة الإنهيار والسقوط إذ يقول: (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها). وتعني "شفا" في اللغة حافة الهاوية وطرف الحفرة أو الخندق وما شابه ذلك، ومن ذلك "الشفة"، كما وتستعمل لفظة "شفا" هذه في البُرء من المرض، لأن الإنسان بسببه يكون على حافة السلامة والعافية. ويريد سبحانه من قوله هذا: أنكم كنتم على حافة السقوط والإنهيار في الهاوية، وأن سقوطكم كان محتملاً في كلّ آن ومتوقعاً في كلّ لحظة، لتصبحوا بعد السقوط رماداً، وخبراً بعد أثر، ولكن الله نجاكم من ذلك السقوط المرتقب، وأبدلكم بعد الخوف أمناً، وبدل الإنهيار إعتلاء ومجداً، وهداكم إلى حيث الأمن والأمان في رحاب الأُخوة والمحبة. والنار في هذه الآية: هل هي نار الجحيم، أو نيران هذه الدنيا؟ فيها خلاف بين المفسّرين، ولكن النظر في مجموع الآية يهدي إلى أن النار كناية عن نيران الحروب والمنازعات التي كانت تتأجج كلّ لحظة بين العرب في العهد الجاهلي بحجج واهية، ولأسباب طفيفة. فإن القرآن يصور بهذه العبارة الوضع الجاهلي المتأزم ويصور أخطار الحروب المدمرة التي كانت تتهدد حياة الناس في كلّ لحظة بالفناء والدمار والإنهيار، وما منَ به الله سبحانه عليهم من النجاة والخلاص من ذلك الوضع في ظل الإسلام وبفضل تعاليمه، والذي بسببه تخلّص المسلمون أيضاً من نار جهنم، وعذابه الأليم. ولمزيد من التأكيد على ضرورة الإعتصام بحبل الله مع الإعتبار بالماضي والحاضر، يختم سبحانه الآية بقوله (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون). إذن فالهدف الأساسي هو خلاصكم ونجاتكم وهدايتكم إلى سبل الأمن والسلام، وحيث إن في ذلك مصلحتكم فإن عليكم أن تعيروا ما بيناه لكم مزيداً من الإهتمام، ومزيداً من العناية. دور الإتحاد في بقاء الأُمم رغم كلّ ما قيل عن أهمية الإتحاد وآثاره العظيمة في التقدّم الإجتماعي عند الشعوب والأُمم فإن من الممكن القول والإدعاء بأن الآثار الواقعية لهذه المسألة لا تزال مجهولة، وغير معروفة كما ينبغي. إن العالم يشهد اليوم سدوداً كثيرة وكبيرة أقيمت في مختلف المناطق، وقد أصبحت منشأ لإنتاج أضخم القوى الصناعية، فقد استطاعت هذه السدود بفضل ما أنتجت من طاقات وحفظت من مياه كانت تذهب قبل ذلك هدراً، أن تغطي مساحات كبيرة شاسعة بالري والإضاءة. فلو أننا فكرنا قليلاً لوجدنا أن هذه القوّة العظيمة لم تنشأ إلاَّ من تجمع القوى الصغيرة، الجزئية- أي تجمع قطرات المطر، وحبات الغيث الحقيرة- ومن هنا تدرك أهمية إجتماع القوى البشرية وتلاحم الطاقات الإنسانية، وتجمعها، وما يرافقها من جهود جماعية. ولقد عبرت النصوص والأحاديث المأثورة عن النبي الكريم وأهل بيته الطاهرين- عليهم صلوات الله أجمعين- عن أهمية الإتحاد والإجتماع بعبارات متنوعة مختلفة. فتارة يقول النبي الأكرم (ص) "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وشبك بين أصابعه(5). واُخرى يقول (ص) "المؤمنون كالنفس الواحدة"(6). وثالثة يقول (ص) "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى"(7). ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ﴾ بدينه أو كتابه وعنهم (عليهم السلام) نحن حبل الله وروي القرآن والولاية فإنهما ﴿جَمِيعًا﴾ لا يفترقان ﴿وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ عن الحق تفرق أهل الكتاب باختلافهم ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ بالإسلام ﴿فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ متواصلين متحابين في الله ﴿وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ﴾ مشرفين على الوقوع في نار جهنم لكفركم ﴿فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ بمحمد وبالإسلام ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ للناس ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ لكي تثبتوا على الهدى أو تزادوه.