(وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون).
إن هاتين الآيتين تصرحان بأن المنافقين والمتفرقين بعد ما جاءتهم البينات هم المسودة وجوههم الذائقون للعذاب الأليم بسبب كفرهم، وأما المؤمنون المتآلفون المتحابون المتحدون فهم في رحمة الله ورضوانه مبيضة وجوههم.
ولقد قلنا مراراً أن ما يلاقيه الإنسان من الأوضاع والحالات، ومن الثواب والعقاب في الحياة الآخرة ليس في الحقيقة سوى أفكاره وأعماله وتصرفاته المجسمة التي قام بها في هذه الحياة الدنيا، فهما وجهان لعملة واحدة، إنه تجسم صادق ودقيق لما كان ينويه أو يعمله هنا ليس إلاَّ.
وبعبارة أُخرى: أن لكل ما يفعله الإنسان فى هذه الحياة آثاراً واسعة تبقى في روحه، وقد لا تدرك في هذه الحياة، ولكنها تتجلّى- بعد سلسلة من التحولات- في الآخرة، فتظهر بحقائقها الواقعية، وحيث إن جانب الروح يكون أقوى في الآخرة، إذ تشتد حاكميتها وسيادتها على الجانب الآخر من الكيان البشري من هنا يكون لتلك الآثار إنعكاساتها حتّى على الجسد، فتبدو الآثار المعنوية للأعمال محسوسة كما يكون الجسد محسوساً لكلّ أحد.
فكما ان الإيمان والإتحاد يوجبان الرفعة وبياض الوجوه في هذا العالم، ويوجب العكس العكس، أي أن الكفر والإختلاف يوجبان للأُمة الكافرة المتفرقة سواد الوجه والذلة، فإن هذا البياض والسواد (المجازيين) في الدنيا يظهران في الآخرة بصورة حقيقية حيث يحشر المؤمنون المتحدون المتآلفون بيض الوجوه، بينما يحشر الكافرون المتفرقون المتخاصمون سود الوجوه.
وتلك حقيقة أشارت إليها آيات اُخرى في القرآن الكريم في شأن من يتمادى في المعصية ويأتي بالذنب تلو الذنب، والإثم بعد الإثم إذ يقول سبحانه: (كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً)(1).
ويقول في شأن الذين يفترون على الله الكذب (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة)(2).
وكلّ هذه الأُمور هي المردودات والآثار الطبيعية لما يأتيه الإنسان في عالم الدنيا من الأعمال.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ﴾ ثوابه الدائم ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.