سبب النّزول
عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت عندما أقدم بعض المسلمين- بسبب ما كان بينهم وبين اليهود من الصداقة أو القرابة أو الجوار أو الحلف أو الرضاع- على ذكر أسرار المسلمين عندهم، وبهذا كان اليهود الذين يتظاهرون بالمودة للمسلمين- وهم ألدّ أعداء الإسلام في باطنهم- يطلعون على أسرار المسلمين، فنزلت هذه الآيات تحذر اُولئك الرجال من المسلمين من مغبة هذه الصداقات والعلاقات، وتوصيهم بأن لا يتخذوا اليهود بطانة يسرون إليهم بأسرارهم، لأنهم لا يتورعون عن استخدام كلّ وسيلة ممكنة- حتّى هذه الأسرار- لإلحاق الأذى والضرر بكم، لأنهم يهمهم- دائماً- أن تكونوا في نصب وتعب ومحن ومشاكل، وعناء وشقاء.
التّفسير
لا تتخذوا الأعداء بطانة:
هذه الآية التي جاءت بعد الآيات السابقة التي تعرضت لمسألة العلاقات بين المسلمين والكفّار، تشير إلى قضايا حساسة بالغة الأهمية، وتحذر المؤمنين- ضمن تمثيل لطيف- بان لا يتخذوا من الذين يفارقونهم في الدين والمسلك أصدقاء يسرون إليهم ويخبرونهم بأسرارهم، وأن لا يطلعوا الأجانب على ما تحتفظ به صدورهم وما خفي من نواياهم وأفكارهم الخاصّة بهم، قال سبحانه:
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة(1) من دونكم...).
وهذا يعني أن الكفّار لا يصلحون لمواصلة المسلمين ومصادقتهم، كما لا يصلحون بأن يكونوا أصحاب سر لهم، وذلك لأنهم لا يتورعون عن الكيد والإيقاع بهم ما استطاعوا: (لا يألونكم خبالاً)(2).
فليست الصداقات والعلاقات بقادرة على أن تمنع اُولئك الكفّار- بسبب ما يفارقون به المسلمين في العقيدة والمسلك- من أضمار الشر للمسلمين، وتمني الشقاء والعناء لهم (ودوا ما عنتم) أي احبوا في ضمائرهم ودخائل نفوسهم لو أصابكم العنت والعناء.
إنهم- لإخفاء ما يضمرونه تجاهكم- يحاولون دائماً أن يراقبوا تصرفاتهم، وأحاديثهم كيلا يظهر ما يبطنونه من شر وبغض لكم، بيد أن آثار ذلك العداء والبغض تظهر أحياناً في أحاديثهم وكلماتهم، عندما تقفز منهم كلمة أو اُخرى تكشف عن الحقد الدفين والحنق المستكن في صدورهم: (قد بدت البغضاء من أفواههم).
وتلك حقيقة من حقائق النفس يذكرها الإمام أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) في إحدى كلماته إذ يقول:
"ما أضمر أحد شيئاً إلاَّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه"(3).
إنه لابدّ أن يَرْشَح شيء إلى الخارج إذا ما امتلأ الداخل، كما يطفح الكيل فتنفضح السرائر، وتبدو الدخائل.
وقد أوضح الله سبحانه في هذه الآية إحدى سبل التعرف على بواطن الأعداء ودخائل نفوسهم، ثمّ إنه سبحانه يقول: (وما تخفي صدورهم أكبر) أي أن ما يبدو من أفواههم ما هي إلاَّ شرارة تحكي عن تلك النار القوية الكامنة في صدورهم.
ثمّ إنه تعالى يضيف قائلاً: (قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) أي أن ما ذكرناه من الوسيلة للتعرف على العدو أمر في غاية الأهمية لو كنتم تتدبرون فيه، فهو يوقفكم على وسيلة جداً فعالة لمعرفة ما يكنه الآخرون ويضمرونه تجاهكم، وهو أمر في غاية الخطورة بالنسبة لأمنكم وحياتكم وبرامجكم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً﴾ هو الذي يعرفه الرجل أسراره ثقة به مشبه ببطانة الثوب ﴿مِّن دُونِكُمْ﴾ كائنة من غير المسلمين أو متعلق بلا تتخذوا ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾ لا يقصرون في الفساد والإلواء التقصير ﴿وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ﴾ تمنوا ضرركم ومشقتكم ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ من عدم تمالكهم أنفسهم لفرط بغضهم ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ مما بدا والواو للحال ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ما بينا والجمل الأربع مستأنفات للتعليل وقيل الثلاث الأول نعوت لبطانة.