لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير النّعم المتنوعة: بعد أن نجا بنو إسرائيل من الفرعونييّن، تذكر الآيات 23 - 29 من سورة المائدة، أن بني إسرائيل أُمروا لأن يتجهوا إلى أرض فلسطين المقدسة، لكن هؤلاء عصوا هذا الامر، وأصروا على عدم الذهاب مادام فيها قوم جبارون (العمالقة)، وأكثر من ذلك تركوا أمر مواجهة هؤلاء الظالمين لموسى وحده قائلين له: ﴿فَاذْهَبْ أنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا ههُنَا قَاعِدُونَ﴾. تألم موسى لهذا الموقف ودعا ربه ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ فكتب عليهم التيه أربعين عاماً في صحراء سيناء. مجموعة من التائهين ندمت على ما فعلته أشد الندم، وتضرعت إلى الله، فشمل الله سبحانه بني إسرائيل ثانية برحمته، وأنزل عليهم نعمه التي تشير الآية إلى بعضها: ﴿وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾. والظّل له أهمية الكبرى لمن يطوي الصحراء طيلة النهار وتحت حرارة الشمس اللاّفحة، خاصة أن مثل هذا الظّل لا يضيّق الفضاء على الإِنسان ولا يمنع عنه هبوب النسيم. يبدو أن الغمام الذي تشير إليه الآية الكريمة، ليس من النوع العابر الذي يظهر عادة في سماء الصحراء، ولا يلبث أن يتفرق ويزول، بل هو من نوع خاص تفضل به الله على بني إسرائيل ليستظلوا به بالقدر الكافي. وإضافة إلى الظل فانّ الله سبحانه وفّر لبني إسرائيل بعد تيههم الطعام الذي كانوا في أمسّ الحاجة إليه خلال أربعين عاماً خلت من ضياعهم: ﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى، كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾. لكن هؤلاء عادوا إلى الكفران: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾. وسنشرح «المن» و«السلوى» في البحوث الآتية. بحوث 1 - الحياة الجديدة بعد التحرر: الاُمّة التي تتحرر بعد عصر من الذّل والاستضعاف والاستعباد، لا تستطيع أن تتخلى تماماً عن حالتها النفسية والثقافية الموروثة عن عصر الطاغوت، ولابدّ من فترة برزخية تمر بها كي تكون قادرة على إقامة حكم الله في الأرض، وفق معايير إلهية بعيدة عن مؤثرات عصر الطاغوت. وسواء امتدت هذه الفترة البرزخية أربعين عاماً كما حدث لبني إسرائيل، أو أقل أو أكثر، فهي فترة عقاب إلهي هدفها التزكية والإِصلاح والبناء لأنّ مجازاة الله ليست لها جنبة انتقامية. ولابدّ أن يبقى بنو اسرائيل فترة أربعين عاماً من «التيه» في الصحراء ليتربّى جيل جديد حامل لصفات توحيدية ثورية، ومؤهل لإقامة الحكم الإِلهي في الأرض المقدسة. 2 - المنّ والسّلوى: تعددت أقوال المفسرين في معنى هاتين الكلمتين، ولا حاجة إلى استعراضها جميعاً، بل نكتفي بذكر معناهما اللغوي، ثم نذكر تفسيراً واحداً لهما هو في اعتقادنا أوضح التفاسير وأقربها إلى الفهم القرآني. «المنّ» شيء كالطلّ فيه حلاوة يسقط على الشجر أو بعبارة اُخرى هو عصارة شجر ذات طعم حلو، وقيل طعم حلو ممزوج بالحموضة. و«السّلوى» يعني التسلّي، وقال بعض اللغويين وجمع من المفسرين إنه «طائر». وروي عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إن الكماة من المنّ». وذهب البعض إلى أن «المنّ» هو جميع ما أنعم الله تعالى على بني إسرائيل ومنّ عليهم. و«السّلوى» هي جميع المواهب والملكات النفسانية التي توجب لهم التسلية والهدوء النفسي. وهو مع مخالفته لرأي معظم المفسرين، يخالف ظاهر الآية حيث تقول: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ وفي هذا التعبير دلالة واضحة على أن المنّ والسلوى نوعان من الطعام. وهذه العبارة وردت كذلك في الآية 160 من سورة الأعراف. يوتذكر التوراة أن «المنَّ» حبٌّ يشبه بذر الكزبرة يتساقط على الأرض لي، وكان بنو إسرائيل يجمعونه ويصنعون منه خبزاً ذا طعم خاص. وثمة احتمال آخر هو أن الأمطار الغزيرة النافعة التي هطلت بفضل الله على تلك الصحراء أثرت على أشجار تلك المنطقة فأفرزت عصارة حلوة استفاد منها بنو إسرائيل. واحتمل بعضهم أن يكون «المنّ» نوعاً من العسل الطبيعي حصل عليه بنو إسرائيل في الجبال والمرتفعات المحيطة بصحراء التيه. وهذا التّفسير يؤيد ما ورد من شروح على العهدين (التوراة والإِنجيل) حيث جاء: «الأراضي المقدسة معروفة بكثرة أنواع الأوراد والأزهار، ومن هنا فإن مجاميع النحل تبني خلاياها في أخاديد الصخور وعلى أغصان الأشجار وثنايا بيوت النّاس، بحيث يستطيع أفقر النّاس أن يتناول العسل». بشأن «السلوى» قال بعض المفسرين إنه العسل، وأجمع الباقون على أنه نوع من الطير، كان يأتي على شكل أسراب كبيرة إلى تلك الأرض، وكان بنو إسرائيل يتغذون من لحومها. في النصوص المسيحية تأييد لهذا الرأي حيث ورد في تفسير على العهدين ما يلي: «إعلم أن السلوى تتحرك بمجموعات كبيرة من افريقيا، فتتجه إلى الشمال، وفي جزيرة كابري وحدها يصطاد من هذا الطائر 16 ألفاً في الفصل الواحد... هذا الطائر يجتاز طريق بحر القلزم، وخليج العقبة والسويس، ويدخل شبه جزيرة سيْناء. وبعد دخوله لا يستطيع أن يطير في إرتفاعات شاهقة لشدّة ما لاقاه من تعب وعناء في الطريق، فيطير على إرتفاع منخفض ولذلك يمكن اصطياده بسهولة... وورد ذكر ذلك في سفر الخروج وسفر الأعداء من التوراة». يستفاد من هذا النص أن المقصود بالسلوى طير خاص سمين يشبه الحمام معروف في تلك الأرض. شاء الله بفضله ومنّه أن يكثر هذا الطير في صحراء سيناء آنئذ لسدّ حاجة بني إسرائيل من اللحوم، ولم تكن هذه الكثرة من الطير طبيعية في تلك المنطقة. 3 - لماذا قالت الآية «أَنْزَلْنَا»؟ عبرت الآية الكريمة عن نعمة تقديم المن والسلوى بالإِنزال، وليس الإِنزال دائماً إرسال الشيء من مكان عال، كقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانَيِةَ أَزْوَاج﴾. واضح أن الأنعام لم تهبط من السماء، من هنا فالإِنزال في مثل هذه المواضع: ييإمّا أن يكون «نزو مقامياً» أي نزو من مقام أسمى إلى مقام أدنى. أو أن يكون من «الإِنزال» بمعنى الضيافة، يقال أنزلت فلاناً: أي أضفته، والنزل (على وزن رُسُل﴾ ما يُعدّ للنازل من الزاد، ومنه قوله تعالى: ﴿فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيم﴾ وقوله سبحانه: ﴿يخَالِدينَ فِيهَا نُزُ مِنْ عِنْدِ الله﴾ . وتعبير «الإِنزال» للمنّ والسلوى، قد يشير إلى أن بني إسرائيل كانوا ضيوف الله في الأرض، فاستضافهم بالمن والسلوى. ويحتمل أن يكون الإِنزال بمعنى الهبوط من الأعلى لأن النعم المذكورة وخاصة (السلوى) تهبط إلى الأرض من الأعلى. 4 - ما هو الغمام؟ قيل: الغمام والسحاب بمعنى واحد، وقيل الغمام هو السحاب الأبيض، وذكروا في وصفه أنه أبرد وأرق من السحاب، والغمام في الأصل من الغمّ وهو تغطية الشيء، وسمّي الغمام بهذا الاسم لأنه يغطي صفحة السماء، وسمّي الهمُّ غماً بهذا الاسم لأنه يحجب القلب. على أي حال، قد يشير تعبير «الغمام» إلى أن بني إسرائيل، كانوا يستفيدون من ظل الغمام إضافة إلى تمتعهم بالنور الكافي لبياض هذه السّحب ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ لما كنتم في التيه ليقيكم حر الشمس ﴿وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ﴾ الترنجبين ينزل عليكم بالليل فتأكلونه ﴿وَالسَّلْوَى﴾ السماني تجيء بالعشاء مشويا فيقع على موائدهم فإذا أكلوا وشبعوا طار عنهم ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ قول الله تعالى ﴿وَمَا ظَلَمُونَا﴾ لما غيروا وبدلوا ما أمروا به ﴿وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ إياها يضرون بالكفران.