لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير السباق في مضمار السعادة: بعد أن هددت الآيات السابقة العصاة وتوعدتهم بالعذاب والجحيم، وبشرت الأبرار المطيعين بالرحمة الإلهية وشوقتهم إليها جاءت الآية الأُولى من هذه الآيات تشبه سعي المطيعين واجتهادهم بالسباق، والمسابقة المعنوية التي تهدف الوصول إلى الرحمة الإلهية، والنعم والعطايا الربانية الخالدة (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم). (وسارعوا) تعني تسابق اثنين أو أكثر للوصول إلى هدف معين فيحاول كلّ واحد- باستخدام المزيد من السرعة- أن يسبق صاحبه ومنافسه وهو أمر مندوب في الأعمال والأخلاق الصالحة، ومقبوح مذموم في الأفعال السيئة والأخلاق القبيحة. إن القرآن الكريم يستفيد هنا- في الحقيقة- من نقطة نفسية هي أن الإنسان لا يؤدي عمله بسرعة فائقة إذا كان بمفرده، وكان العمل من النوع الروتيني، أما إذا اتخذ العمل طابع المسابقة والتنافس الذي يستعقب جائزة قيمة ومكافأة ثمينة نجده يستخدم كلّ طاقاته، ويزيد من سرعته لبلوغ ذلك الهدف، ونيل تلك الجائزة. ثمّ إذا كان الهدف المجعول في هذه الآية هو "المغفرة" في الدرجة الأُولى فلأن الوصول إلى أي مقام معنوي لا يتأتى بدون المغفرة والتطهر من أدران الذنوب، فلابدّ إذن من تطهير النفس من الذنوب أولاً، ثمّ الدخول في رحاب القرب الإلهي، ونيل الزلفى لديه. هذا هو الهدف أول. وأما الهدف الثاني لهذا السباق المعنوي العظيم فهو "الجنة" التي يصرح القرآن الكريم أن سعتها سعة السماوات والأرض (وجنة عرضها السماوات والأرض). ثمّ إن هناك تفاوتاً قليلاً بين هذه الآية وبين الآية 21 من سورة الحديد (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض). ففي هذه الآية ذكرت لفظة "المسابقة" مكان "المسارعة" كما ذكرت السماء بصورة المفرد المصدّر بألف ولام الجنس الذي يفيد العموم. كما استعمل هنا كاف التشبيه فيكون معنى هذه الآية هو أن سعة الجنة مثل سعة السماء والأرض، ومعنى الآية المبحوثة هنا هو أن سعة الجنة هي سعة السماوات والأرض فيكون المعنيان سواء. ثم إنه سبحانه يختم الآية الحاضرة بقوله (أعدت للمتقين) فهذه الجنة العظيمة الموصوفة بتلك السعة قد هيئت للذين يتقون الله ويخشونه ويجتنبون معاصيه ويمتثلون أوامره. وينبغي أن نعلم أن المراد بالعرض هنا ليس هو الطول والعرض الهندسي بل المراد- كما عليه اهل اللغة- هو السعة. وهنا سؤالان: أولاً: هل الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان بالفعل، أم أنهما توجدان فيما بعد على أثر أعمال الناس؟ ثانياً: إذا كانت الجنة والنار موجودتين فعلاً فأين تقعان، وقد قال سبحانه بأن عرض الجنة عرض السماوات والأرض. هل الجنة والنار موجودتان الآن؟ يعتقد أكثر العلماء المسلمين أن للجنة والنار وجوداً خارجياً وفعلياً، وأن ظواهر الآيات القرآنية تؤيد هذه النظرية نذكر من باب النموذج ما يلي: 1- ذكرت في الآية الحاضرة وآيات قرآنية اُخرى لفظة "أعدت" وما شابه ذلك من مادة هذه اللفظة، وقد استعملت تارة بشأن الجنة وتارة بشأن النار(1). فيستفاد من هذه الآيات أن الجنة والنار معدتان فعلاً، وإن كانتا تتوسعان فيما بعد على أثر أعمال الناس. (تأمل). 2- نقرأ في الآيات 13 و 14 و 15 المرتبطة بالمعراج في سورة "والنجم" قوله سبحانه: (ولقد رآه نزلة أخرى * عن سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى)وهذا يشهد مرّة أُخرى بأن الجنة موجودة فعلاً. 3- يقول سبحانه في سورة "التكاثر" الآية 5 و 6 و 7 (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثمّ لترونها عين اليقين). أي لو كان لديكم علم يقيني لشاهدتم الجحيم، بل لرأيتموها رأى العين. ثمّ إن هناك روايات ترتبط بالمعراج، وروايات اُخرى تحمل شواهد على هذه المسألة(2). أين تقع الجنة والنار؟ إذا ثبت أن الجنة والنار موجودتان بالفعل يُطرح سؤال ا خر هو: أين تقعان إذن؟ ويمكن الإجابة على هذا السؤال على نحوين: الأول: إن الجنة والنار تقعان في باطن هذا العالم ولا غرابة في هذا، فإننا نرى السماء والأرض والكواكب بأعيننا، ولكننا لا نرى العوالم التي توجد في باطن هذا العالم، ولو أننا ملكنا وسيلة اُخرى للإدراك والعلم لأدركنا تلك العوالم أيضاً، ولوقفنا على موجودات اُخرى لا تخضع أمواجها لرؤية البصر، ولا تدخل ضمن نطاق حواسنا الفعلية. والآية المنقولة عن سورة "التكاثر" وهي قوله سبحانه: (كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم) هي الاُخرى شاهدة على هذه الحقيقة ومؤيدة لهذا الرأي. كما ويستفاد من بعض الأحاديث أيضاً أنه كان بين الأتقياء والأولياء من قد زودوا ببصيرة ثاقبة، ورؤية نفاذة استطاعوا بها أن يشاهدوا الجنة والنار مشاهدةحقيقية. ويمكن التمثيل لهذا الموضوع بالمثال الآتي: لنفترض أن هناك في مكان ما من الأرض جهازاً قوياً للإرسال الإذاعي يبث في العالم- وبمعونة الأقمار الفضائية والأمواج الصوتية- تلاوات شيقة لآيات القرآن الكريم. بينما يقوم جهاز قوي إذاعي آخر ببث أصوات مزعجة وصاخبة بنفس القوّة. لا شكّ أننا لا نملك القدرة على إدراك هذين النوعين من البث بحواسنا العادية، ولا أن نعلم بوجودهما إلاّ إذا استعنا بجهاز استقبال فإننا حينما ندير المؤشر على الموج المختص بكل واحد من هذين البثين نستطيع فوراً أن نلتقط ما بثته كلّ واحدة من تينك الإذاعتين ونستطيع أن نميز بينهما بجلاء، ودون عناء. وهذا المثال وإن لم يكن كاملاً من جميع الجهات إلاّ أنه يصور لنا حقيقة هامة، وهي أنه قد توجد الجنة والنار في باطن هذا العالم غير أننا لا نملك إدراكها بحواسنا، بينما يدركها من يملك الحاسة النفاذة المناسبة. الثاني: إن عالم الآخرة والجنة والنار عالم محيط بهذا الكون، وبعبارة اُخرى: إن كوننا هذا يقع في دائرة ذلك العالم، تماماً كما يقع عالم الجنين ضمن عالم الدنيا، إذ كلنا يعلم أن عالم الجنين عالم مستقل له قوانينه وأوضاعه ولكنه مع ذلك غير منفصل عن هذا العالم الذي نحن فيه، بل يقع في ضمنه وفي محيطه ونطاقه، وهكذا الحال في عالم الدنيا بالنسبة إلى عالم الآخرة. وإذا وجدنا القرآن يقول: بأن سعة الجنة سعة السماوات والأرض فإنما هو لأجل أن الإنسان لا يعرف شيئاً أوسع من السماوات والأرض ليقيس به سعة الجنة، ولهذا يصور القرآن عظمة الجنة وسعتها وعرضها بأنها كعرض السماوات والأرض، ولم يكن بد من هذا، فكما لو أننا أردنا أن نصور للجنين- فيما لو عقل- حجم الدنيا التي سينزل إليها، لم يكن لنا مناص من التحدث إليه بالمنطق الذي يدركه وهو في ذلك المحيط. ثمّ إنه تبين من ما مرّ الجواب على السؤال الآخر، وهو إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض فأين تكون النار؟ لأنه حسب الجواب الأول يتضح أن النار هي الأُخرى تقع في باطن هذا العالم، ولا ينافي وجودها فيه وجود الجنة فيه أيضاً (كما تبين من مثال جهازي الإرسال). وأما حسب الجواب الثاني (وهو كون عالم الجنة والنار محيطاً بهذا العالم الذي نعيش فيه) فيكون الجواب على هذا السؤال أوضح لأنه يمكن أن تكون النار محيطة بهذا العالم، وتكون الجنة محيطة بها فتكون النتيجة أن تكون الجنة أوسع من النار. سيماء المتقين: لما صرّح في الآية السابقة بأن الجنة أُعدت للمتقين، تعرضت الآية التالية لذكر مواصفات المتقين فذكرت خمساً من صفاتهم الإنسانية السامية هي: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي إلى ما يوجبها وهو أداء الفرائض أو الطاعة أو التوبة ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾ إذا وضعتا مبسوطتين وقيل عرضها كعرضهما، وذكر العرض مبالغة في وصفها بالسعة لأنه دون الطول قيل: كسبع سموات وسبع أرضين لو تواصلت ﴿أُعِدَّتْ﴾ هيئت ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ فهي مخلوقة اليوم كما تواتر في الأخبار.