لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
سيماء المتقين: لما صرّح في الآية السابقة بأن الجنة أُعدت للمتقين، تعرضت الآية التالية لذكر مواصفات المتقين فذكرت خمساً من صفاتهم الإنسانية السامية هي: 1- إنّهم ينفقون أموالهم في جميع الأحوال، في الشدّة والرخاء، في السرّاء والضرّاء (الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء). وهم بهذا العمل يثبتون روح التعاطف مع الآخرين، وحب الخير الذي تغلغل في نفوسهم، ولهذا فهم يقدمون على هذا العمل الصالح والخطوة الإنسانية فيجميع الظروف والأحوال. ولاشكّ أن الإنفاق في حال الرخاء فقط لا يدلّ على التغلغل الكامل للصفات الإنسانية في أعماق الروح وإنما يدلّ على ذلك إذا أقدم الإنسان على الإنفاق والبذل في مختلف الظروف وفي جميع الأحوال، فإن ذلك ممّا يدلّ على تجذر تلك الصفة في النفوس. يمكن أن يقال: وكيف يمكن للإنسان أن ينفق عندما يكون فقيراً؟ والجواب واضح تمام الوضوح: أولاً: لأن الفقراء يمكنهم إنفاق ما يستطيعون عليه، فليس للإنفاق حدّ معين لا في القلة ولا في الكثرة. وثانياً: لأن الإنفاق لا ينحصر في بذل المال والثروة فحسب، إذ للإنسان أن ينفق من كلّ ما وهبه الله، ثروة كان أو علماً أو جاهاً أو غير ذلك من المواهب الإلهية الاُخرى. وبهذا يريد الله سبحانه أن يركز روح التضحية والعطاء، والبذل والسخاء حتّى في نفوس الفقراء والمقلين حتّى يبقوا- بذلك- في منأى عن الرذائل الأخلاقية التي تنشأ من "البخل". إن الذين يستصغرون الإنفاقات القليلة في سبيل الله ويحتقرونها إنما يذهبون هذا المذهب، لأنهم حسبوا لكلّ واحد منها حساباً مستقلاً وخاصاً، ولو أنهم ضموا هذه الإنفاقات الجزئية بعضها إلى بعض، ودرسوها مجتمعة لتغيرت نظرتهم هذه. فلو أن كلّ واحد من أهل قطر من الأقطار- فقراء وأغنياء- قدم مبلغاً صغيراً لمساعدة الآخرين من عباد الله، ولتقدم الأهداف والمشاريع الإجتماعية، لاستطاعوا أن يقوموا بأعمال ضخمة وكبيرة، مضافاً إلى ما يجنونه من هذا العمل من آثار معنوية لا ترتبط بحجم الإنفاق، وتعود إلى المنفق في كلّ حال. والملفت للنظر هو أن أول صفة ذكرت للمتقين هنا هو "الإنفاق" لأن هذه الآيات تذكر- في الحقيقة- ما يقابل الصفات التي ذكرت للمرابين والمستغلّين في الآيات السابقة. هذا مضافاً إلى أن غض النظر عن المال والثروة في السرّاء والضراء من أبرز علائم التقوى. 2- أنهم قادرون على السيطرة على غضبهم: (والكاظمين الغيظ). ولفظة "الكظم" تعني في اللغة شد رأس القربة عند ملئها، فيقول كظمت القربة إذا ملأتها ماء ثمّ شددت رأسها، وقد استعملت كناية عمن يمتلىء غضباً ولكنه لا ينتقم. وأما لفظة "الغيظ" فتكون بمعنى شدة الغضب والتوتر والهيجان الروحي الشديد الحاصل للإنسان عندما يرى ما يكره. وحالات الغيظ والغضب من أخطر الحالات التي تعتري الإنسان، ولو تركت وشأنها دون كبح لتحولت إلى نوع من الجنون الذي يفقد الإنسان معه السيطرة على أعصابه وتصرفاته وردود فعله. ولهذا فإن أكثر ما يقترفه الإنسان من جرائم وأخطاء وأخطرها على حياته هي التي تحصل في هذه الحالة، ولهذا تجعل الآية "كظم الغيظ" و "كبح جماح الغضب" الصفة البارزة الثانية من صفات المتقين. قال النبي الأكرم (ص) "من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً". وهذا الحديث يفيد أن كظم الغيظ له أثر كبير في تكامل الإنسان معنوياً، وفي تقوية روح الإيمان لديه. 3- أنهم يصفحون عمن ظلمهم (والعافين عن الناس). إن كظم الغيظ أمر حسن جداً، إلاّ أنه غير كاف لوحده، إذ من الممكن أن لايقلع ذلك جذور العداء من قلب المرء، فلابدّ للتخلص من هذه الجذور والرواسب أن يقرن "كظم الغيظ" بخطوة أُخرى وهي "العفو والصفح" ولهذا أردفت صفة "الكظم للغيظ" التي هي بدورها من أنبل الصفات بمسألة العفو. ثمّ إنّ المراد هو العفو والصفح عن من يستحقون العفو، لا الأعداء المجرمون الذين يحملهم العفو والصفح على مزيد من الإجرام، وينتهي بهم إلى الجرأة أكثر. 4- أنهم محسنون: (والله يحب المحسنين). وهنا إشارة إلى مرحلة أعلى من "العفو والصفح" وبهذا يرتقي المتقون من درجة إلى أعلى في سلّم التكامل المعنوي. وهذه السلسلة التكاملية هي أن لا يكتفي الإنسان تجاه الإساءة إليه بكظم الغيظ بل يعفو ويصفح عن المسىء ليغسل بذلك آثار العداء عن قلبه، بل يعمد إلى القضاء على جذور العداء في فؤاد خصمه المسيء إليه أيضاً، وذلك بالإحسان إليه، وبذلك يكسب وده وحبه، ويمنع من تكرار الإساءة إليه في مستقبل الزمان. وخلاصة القول أن القرآن يأمر المسلم بأن يكظم غيظه أولاً ثمّ يطهر قلبه بالعفو عنه، ثمّ يطهر فؤاد خصمه من كلّ رواسب الضغينة وبقايا العداء بالإحسان إليه. إنه تدرج عظيم من صفة إنسانية خيّرة إلى صفة إنسانية أعلى هي قمة الخلق وذروة الكمال المعنوي. ولقد روي في المصادر الشيعية والسنية في ذيل هذه الآية أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجه، فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية: إن الله تعالى يقول: (والكاظمين الغيظ) فقال لها: قد كظمت غيظي. قالت: (والعافين عن الناس) قال: "قد عفوت وقد عفى الله عنك" قالت: (والله يحب المحسنين) قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله(3). إن هذا الحديث شاهد حي بأن كلّ مرحلة متأخرة من تلك المراحل أفضل من المرحلة المتقدمة. 5- إنهم لا يصرون على ذنب: (والذين إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم). و"الفاحشة" مشتقة أصلاً من الفحش، وهو كلّ ما اشتد قبحه من الذنوب، ولا يختص بالزنا خاصة، لأن الفحش- في الأصل- يعني "تجاوز الحدّ" الذي يشمل كلّ ذنب. ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء﴾ حال اليسر والعسر أو كل الأحوال إذ لا تخلوا من مسرة ومضرة ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ إذا جنوا عليهم ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ العهد إشارة إلا هؤلاء أو الجنس ويدخلون فيه.