لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير النظر في تاريخ الماضين وآثارهم: يعتبر القرآن الكريم ربط الماضي بالحاضر والحاضر بالماضي أمراً ضرورياً لفهم الحقائق، لأن الإرتباط بين هذين الزمانين (الماضي والحاضر) يكشف عن مسؤولية الأجيال القادمة، ويوقفها على واجبها، ولهذا قال سبحانه: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين). وهذا يعني أن لله في الأُمم سنناً لا تختص بهم، بل هي قوانين وسنن عامة في الحياة تجري على الحاضرين كما جرت على الماضين سواء بسواء، وهي سنن للتقدّم والبقاء وسنن للتدهور والإندحار، التقدّم للمؤمنين المجاهدين المتحدين الواعين، والتدهور والإندحار للأُمم المتفرقة المتشتتة الكافرة الغارقة في الذنوبوالآثام. أجل إن للتاريخ أهمية حيوية لكلّ أمة من الأُمم، لأن التاريخ يعكس الخصوصيات الأخلاقية والأعمال الصالحة وغير الصالحة، والأفكار التي كانت سائدة في الأجيال السابقة، كما يكشف عن علل سقوط المجتمعات أو سعادتها، ونجاحها وفشلها في العصور الغابرة المختلفة. وبكلمة واحدة: إن التاريخ مرآة الحياة الروحية والمعنوية للمجتمعات البشرية وهو لذلك خير مرشد محذر للأجيال القادمة. ولهذا نجد القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى السير في الأرض والنظر بإمعان وتدبر في آثار الأُمم والشعوب التي سادت ثمّ بادت إذ يقول: (فسيروا في الأرض* فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين). إن آثار الماضين خير عِبرة للقادمين، وبالنظر فيها والإعتبار بها يمكن للناس أن يعرفوا المسير الصحيح للسلوك والحياة. السياحة والسير في الأرض: إن الآثار المتبقية في مختلف بلدان العالم من الأُمم والعهود السابقة ما هي- في الحقيقة- إلاّ وثائق التاريخ الحية والناطقة. بل هي قادرة على أن تعطينا من الحقائق والأسرار أكثر ممّا يعطينا التاريخ المدون. إن الآثار الباقية من العصور السالفة بما فيها من أشكال وصور ونقوش وكيفيات تدلنا على ما كانت تتمتع به الأُمم البائدة من روح وفكر، وثقافات ومبادىء، وعظمة أو صغار، في حين لا يجسّد التاريخ المدون سوى الحوادث الواقعة وسوى صور خاوية عنها. أجل، إن خرائب قصور الطغاة وبقايا آثار عظيمة مثل الأهرام، وبرج بابل، وقصور كسرى، وآثار الحضارة المندثرة لقوم سبأ، ومئات من نظائرها الاُخرى من هذه الآثار المنتشرة في شتى أنحاء هذا الكوكب تنطوي- رغم صمتها- على ألف حديث وحديث، وألف كلمة وكلمة. ولهذا عمد كبار الشعراء إلى الإستلهام من هذه الأطلال والآثار واستوحوا منها الدروس والعبر والعظات، ونقلوا إلى الآخرين عبر قصائدهم ما كان يجيش في صدورهم، وينقدح في نفوسهم من المشاعر والأحاسيس المختلفة، تجاه ما تحكيه هذه الأطلال والآثار من معاني وتعطيه من دلالات. ولقد لخص أحد الأدباء هذه الحقيقة في بيت شعري إذ قال: ان آثارنا تدل علينا***فانظروا بعدنا إلى الآثار إن مطالعة سطر واحد من هذه التواريخ الحية الناطقة تعادل- في الحقيقة- مطالعة كتاب ضخم في مجال التاريخ، وأن ما تبعثه تلك المطالعة في النفس والروح البشرية لا يقاس به شيء مهما عظم. ذلك لأننا عندما نقف أمام آثار الماضين تتمثل أمامنا تلك الآثار وكأنها قد استعادت حياتها، ودب فيها الروح، وكأن العظام النخرة قد خرجت من تحت الأرض حية، وكأن كلّ شيء قد عاد إلى سيرته الأُولى، وكأن جميع الأشياء تنطق وتتحدث، ثمّ إذا أعدنا النظر وجدناها صامتة ميتة منسية، وهذه المقايسة بين هاتين الحالتين ترينا غباء أُولئك المستبدون الذين يرتكبون آلاف الجرائم، وأفظع الجنايات للوصول إلى الشهوات العابرة، واللذائذ الخاطفة. ولهذا يحث القرآن المسلمين على السير في الأرض، والنظر إلى آثار الماضين المدفونة تحت التراب أو الباقية على ظهر الأرض بأم أعينهم، وأن يتخذوا من كلّ ذلك العظة والعبرة وما أكثر العبر. أجل، إن الإسلام يقر مسألة السياحة والسير في الأرض، ويوليها أهمية كبرى، لكن لا كما يريد السياح وطلاب اللذة والهوى، بل لدراسة آثار الأُمم الماضية والتدبر فيها، والإعتبار بها، والوقوف على آثار العظمة الإلهية في شتى نقاط العالم وهذا هو ما يسميه القرآن الكريم بالسير في الأرض، والذي تأمر به الآيات العديدة ومن ذلك: 1- (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين)(1). 2- (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها)(2) وآيات اُخرى... 3- (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)(3). إن هذه الآية تقول بأن السير في الأرض والنظر في آثار الماضيين يفتح العقول والعيون، وينير القلوب والأفئدة، ويخلص الإنسان من الجمود والركود. وقد أشار الإمام علي أميرالمؤمنين (عليه السلام) إلى هذه الحقيقة في كلمات وخطب عديدة منها قوله: "فاعتبروا بما أصاب الأُمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته، ووقائعه ومثلاته واتعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنوبهم واستعيذوا بالله من لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر... واحذروا ما نزل بالأُمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشرّ أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كلّ أمر لزمت العزة به شأنهم وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم من الإجتناب للفرقة واللزوم للالفة والتحاض عليها، والتواصي بها، واجتنبوا كلّ أمركسر فقرتهم وأوهن منّتهم، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور وتدابرالنفوس، وتخاذل الأيدي..."(4). ولكن هذا التعليم الإسلامي الحي قد نسي- مع الأسف- كبقية التعاليم الإسلامية ولم يلتفت إليه المسلمون، بل إنّ بعض العلماء والمفكرين الإسلاميين حصروا الزمان والمكان في فكرهم، فعاشوا في عالم غير عالم الحياة هذا، وبقوا في معزل عن التحولات الإجتماعية، وأشغلوا أنفسهم باُمور حقيرة وقضايا جزئية قليله الأثر بالقياس إلى الأعمال الجوهرية والقضايا الأساسية. ففي عالم نجد فيه البابوات والقساوسة المسيحيين الذين طال ما حبسوا أنفسهم بين جدران الكنائس قد خرجوا من تلك العزلة الطويلة والإنقطاع عن الحياه الإجتماعية إلى العالم الخارجي وراحوا يسيحون في الأرض، ويقيمون الجسور والعلاقات مع الأُمم والشعوب ليزدادوا خبرة بالعصر، ويقفوا على متطلباته ومستجداته ومتغيراته الكثيرة، أفلا يجدر بالمسلمين أن يعملوا بهذا التعليم الإسلامي الصريح، ويخرجوا من النطاق الفكري الضيق الذي هم فيه حتّى يتحقق التحول المطلوب في حياة الأُمة الإسلامية، وتحل الحركة الصاعدة محل الجمود والتقهقر، والتقدّم المطرد مكان التخلّف والتراجع. ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ مضت ﴿مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ وقائع سنها الله في أمم مكذبة ﴿فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ﴾ لتتعظوا بحالهم.