سبب النّزول
لقد وردت في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة، ولكن يستفاد من مجموعها أن هذه الآيات تتبع الآيات السابقة التي كانت تدور حول غزوة "أُحد".
وفي الحقيقة تعتبر هذه الآيات تحليلاً ودراسة لنتائج غزوة "أُحد" وأسبابها لكونها تمثل دروساً كبيرة للمسلمين، وهي في نفس الوقت تسلية للمؤمنين وتقوية لقلوبهم وتثبيت لأفئدتهم، لأن هذه الغزوة- كما أسلفنا- انتهت بسبب تجاهل بعض الرماة لأوامر النبي المشدّدة بالبقاء في الثغرة، بنكسة المسلمين، واستشهاد ثلة كبيرة من أعيانهم وأبطال الإسلام البارزين، ومن جملتهم "حمزة" عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقد حضر النبي مع جماعة من أصحابه في تلك الليلة، عند القتلى، وجلس عند كلّ واحد من الشهداء كرامة له وبكى عنده واستغفر له، ثمّ دفن جميع الشهداء عند "أُحد" في جو من الحزن العميق، فكان المسلمون بحاجة- في هذه اللحظاتـ إلى ما يمسح عنهم كآبة العزيمة ومرارة الإنكسار، ويقوي قلوبهم ويفيدهم درساً في نفس الوقت من نتائج النكسة وعبرها- فنزلت الآيات المذكورة هنا.
التّفسير
دراسة نتائج غزوة أُحد:
في الآية الأُولى من هذه الآيات حذر المسلمون من أن يعتريهم اليأس والفتور بسبب النكسة في معركة واحدة، وأن يتملكهم الحزن وييأسوا من النصر النهائي، قال سبحانه: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
أجل، لا يحسن بهم أن يشعروا بالوهن أو يتملكهم الحزن لما حدث، فالرجال الواعون هم الذين يستفيدون الدروس من الهزائم كما يستفيدونها من الإنتصارات وهم الذين يتعرفون في ضوء النكسات على نقاط الضعف في أنفسهم أو مخططاتهم، ويقفون على مصدر الخطأ والهزيمة، ويسعون لتحقيق النصر النهائي بالقضاء على تلك الثغرات والنواقص والوهن المذكور في الآية، هو- كما في اللغة- كلّ ضعف يصيب الجسم أو الروح أو يصيب الإرادة والإيمان.
على أن عبارة (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) عبارة غنية بالمعاني حرية بالنظر والتأمل.
إذ هي تعني أن هزيمتكم إنما كانت بسبب فقدانكم لروح الإيمان وآثارها، فلو أنكم لم تتجاهلوا أوامر الله سبحانه لم يصبكم ما أصابكم، ولم يلحقكم ما لحقكم، ولكن لا تحزنوا مع ذلك، فإنكم إذا ثبتم على طريق الإيمان كان النصر النهائي حليفكم، والهزيمة في معركة واحدة لا تعني الهزيمة النهائية.
﴿قَدْ خَلَتْ﴾ إلى ما ذكر من أمر المتقين والتائبين ﴿وَلاَ تَهِنُوا﴾ لا تضعفوا عن الجهاد بما أصابكم ﴿وَلاَ تَحْزَنُوا﴾ على ما أصابكم من قتل وأذى ﴿وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾ أعلى منهم لأن قتالكم لله وقتالهم للشيطان وقتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار، أو الأعلون في العاقبة ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ إن صح إيمانكم.