ثمّ إنه سبحانه يقول: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) و بذلك يعطي للمسلمين درساً آخر للوصول إلى النصر النهائي.
و"القرح" جرح يصيب البدن بسبب اصطدامه بشيء خارجي.
فيكون معنى الآية أن عزيمتكم لا ينبغي أن تكون أقل من عزيمة الأعداء، فهم رغم ما لحقهم من خسائر فادحة في الأرواح والأموال- في بدر- حيث قتل منهم سبعون، وجرح وأسر كثير، فإنهم لم يقعدوا عن منابذتكم ومقاتلتكم، ولم يصرفهم ذلك عن الخروج إلى محاربتكم، بل تلافوا في هذه المعركة ما فاتهم، وتداركوا هزيمتهم، فإذا أصبتم في هذه المعركة بهزيمة شديدة فإن عليكم أن لا تقعدوا حتّى تتلافوا ما فاتكم فـ (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله)، فلماذا الوهن ولماذا الحزن إذن؟
ويذهب بعض المفسّرين إلى أن الآية تشير إلى الجراح التي لحقت بالكفّار في أُحد، ولكن هذا لا يستقيم لأن الجراح التي لحقت بالكفّار في أُحد لم تكن مثل الجراح التي لحقت بالمسلمين، هذا أولاً، وكذلك لا يتناسب مع الجملة اللاحقة التي سيأتي تفسيرها فيما بعد ثانياً، ألا وهي قوله سبحانه: (وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء).
ففي هذا القسم يشير سبحانه إلى واحدة من السنن الإلهية وهي أنه قد تحدث في حياة البشر حوادث حلوة أو مرّة ولكنها غير باقية ولا ثابتة مطلقاً، فالإنتصارات والهزائم، والغالبية والمغلوبية، والقوّة والضعف كلّ ذلك يتغير ويتحول، وكلّ ذلك يزول ويتبدل، فلا ثبات ولا دوام لشيء منها، فيجب أن لا يتصور أحد أن الهزيمة فى معركة واحدة وما يتبعها من الآثار اُمور دائمة ثابتة باقية، بل لابدّ من الإنتفاع بسنة التحول، وذلك بتقييم أسباب الهزيمة وعواملها وتلافيها، وتحويل الهزيمة إلى إنتصار، فالحياة صعود ونزول، و أحداثها في تحول مستمر، وتبدل دائم ولا ثبات لشيء من أوضاعها وأحوالها.
(وتلك أيام(1)نداولها بين الناس) لتتضح سنة التكامل من خلال ذلك.
ثمّ إنه سبحانه يشير إلى نتيجة هذه الحوادث المؤلمة فيقول: (وليعلم الله الذين آمنوا) أي أن ذلك إنما هو لأجل أن يتميز المؤمنون حقّاً عن أدعياء الإيمان.
وبعبارة اُخرى: إذا لم تحدث الحوادث المؤلمة في حياة أُمة من الأُمم وتاريخها لم تتميز الصفوف ولم يتبين الخبيث والطيب، لأن الإنتصارات وحدها تخدع وتغري، وتصيب المنتصرين بالغفلة بينما تشكل الهزائم عامل يقظة للمستعدين المتهيئين، وتوجب ظهور القيم، وتعرف بها حقائق الرجال.
ثمّ إنه في قوله: (ويتخذ منكم شهداء) يشير إلى إحدى نتائج هذه الهزيمة المؤلمة، بأن هذه النتيجة كانت هي تقديمكم بعض الشهداء في هذه المعركة، فيجب أن تعلموا أن هذا الدين لم يصل إليكم بالهيّن، فلا يفلت منكم كذلك في المستقبل.
إن الأُمة التيلا تضحي في سبيل أهدافها المقدسة لا تعير تلك الأهداف أهميتها، ولا تعطيها قيمتها اللائقة، أما إذا ضحت في سبيل أهدافها فإنها هي وأجيالها القادمة كذلك ستعطي لتلك الأهداف الأهمية والقيمة اللازمة وستنظر إليها بعين الاحترام والإكبار.
ويمكن أن يكون المراد من "الشهداء" هنا هم الذين يشهدون، فيكون معنى قوله (ويتخذ منكم شهداء) أي أن يتخذ منكم بوقوع هذه الحادثة في حياتكم ـشهوداً- لتعرفوا كيف أن عدم الإنضباط وعدم التقييد بالأوامر يؤدي إلى الهزيمة، وينتهي إلى النكسة المؤلمة.
وإن هؤلاء الشهود سيعلمون الأجيال اللاحقة دروس الإنتصار والهزيمة حتّى لا يكرروا الأخطاء، ولا تقع حوادث مشابهة.
ثمّ إنه تعالى يختم هذا الإستعراض للسنن والدروس والنتائج بقوله: (والله لا يحب الظالمين) فهو لا ينصرهم ولا يدافع عنهم، ولا يمكّنهم من المؤمنين الصالحين العاملين بتعاليم السماء الآخذين بسنن الله في الكون والحياة.
﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾ بفتح القاف وضمها لغتان في الجراح أو الفتح لها والذم لآلها يعني إن نالوا منكم بأحد فقد نلتم منهم ببدر وأنتم الأعلون وترجون من الله ما لا يرجون ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا﴾ نصرفها ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾ تارة لهؤلاء وأخرى لغيرهم ﴿وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ أي ليتميز الثابتون على الإيمان وليس المراد ثبات علمه بل متعلقه أو المعنى ليعلمهم علما يتعلق به الجزاء وهو العلم بالشيء موجودا ﴿وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء﴾ يكرم بعضكم بالشهادة ﴿وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ اعتراض.