التّفسير
المطالبة بالأطعمة المتنوعة:
بعد أن شرحت الآيات السابقة نِعَم الله على بني إسرائيل، ذكرت هذه الآية صورة من عنادهم وكفرانهم بهذه النعم الكبرى.
يتتحدث الآية أو عن مطالبة بني إسرائيل نبيّهم بأطمعة متنوعة بدل اطعام الواحد ﴿المَنّ وَالسَّلْوى﴾، ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعَام وَاحِد فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الاَْرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾.
فخاطبهم موسى ﴿قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بالَّذِي هُوَ خَيْرٌ إِهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُم﴾.
ويضيف القرآن: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوَ بِغَضَب مِنَ اللهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾.
بحوث
1 - آراء المفسرين في كلمة «مصر»:
من المفسرين من قال إن المقصود من كلمة «مصر» في الآية الكريمة هو المفهوم العام للمدينة.
وقوله سبحانه: ﴿إِهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾، أي إنكم الآن تعيشون في هذه الصحراء ضمن إطار منهج للإِختبار وبناء الذات، وليس هذا مكان الأطعمة المتنوعة، إذهبوا إلى المدن حيث التنوع في المأكولات، ولكن لا يوجد فيها المنهج المذكور.
ويستدل أصحاب هذا الرأي بأن بني إسرائيل لم يطلبوا العودة إلى «مصر» موطنهم السابق ولم يعودوا إليه إطلاقاً.
ومنهم من اختار هذا التّفسير لمصر، وأضاف إليه أن المقصود من قوله تعالى: ﴿إِهْبِطُوا...﴾
هو أن بقاءكم في الصحراء واقتصاركم على الطعام الواحد يعودان إلى ضعفكم، فكونوا أقوياء، وحاربوا الأعداء، وحرروا من سيطرتهم مدن الشام والأرض المقدسة، ليتوفر لكم ما شئتم.
وهناك رأي ثالث للمفسرين هو أن المقصود من «مصر» البلد المعروف.
ويكون المعنى عندئذ: إنكم في هذه الصحراء الخالية من الأطعمة المتنوعة تملكون الإِيمان والحرية والإِستقلال، وإن أبيتم إلاّ أن تكون لكم أطعمة متنوعة، فارجعوا إلى مصر حيث الذل والإِستعباد، لتأكلوا من فتات موائد الفراعنة.
إن مشتهيات بطونكم أنستكم ما كنتم تعانون منه من ذل واستعباد، وما حصلتم اليوم عليه من حرية ورفعة وافتخار، وما تتحملونه من حرمان يسير إنما هو ثمن لحريتكم.
ويبدو أن التّفسير الأول أنسب من التاليين.
2 - التنوع وطبيعة الإِنسان:
التنوع هو - دون شك - من متطلبات البشر، وحبّ التنويع خصلة طبيعية في البشر.
والإِنسان - إن استمرّ على تناول طعام معين لمدّة طويلة - يمل ذلك الطعام.
فلم إذن توجه اللوم والتقريع إلى بني إسرائيل حين طلبوا الخضروات والخيار والثوم والعدس والبصل ليتخلصوا من الطعام الواحد؟!
الجواب يتضح لو علمنا أنّ الحياة الإِنسانية تقوم على أساس حقائق هامّة لا يمكن التخلّي عنها، هي الإِيمان والطهر والتقوى والتحرّر.
وقد تمرّ الجماعة البشرية بمرحلة يتعارض فيها هذا الأساس الهام مع متطلبات الإِنسان من الطعام والشراب واللذائذ الاُخرى.
وهنا تصبح الجماعة أمام خيارين، إمّا أن تنغمس في اللذات وتترك قيمها وشرفها، أو تضحي بلذّاتها من أجل إنسانيتها وكرامتها.
بنو إسرائيل كانو يعيشون أمام هذين الخيارين.
ولابدّ من الإِشارة إلى أن حقيقة حبّ التنويع استغلها الطامعون والمستعمرون دوماً، ليدفعوا الشعوب إلى هاوية حياة استهلاكية شهوانية هابطة، يعيش الأفراد فيها بين المعلف والمضجع، ناسين شخصيتهم الإِنسانية، وغافلين عن النير الذي يطوق أعناقهم.
3 - هل «المنّ» و«السلوى» خير الأطعمة؟
حين طلب بنو إسرائيل أطعمة متنوعة جاءهم التقريع بالقول: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾؟! أي أتختارون الأدنى وتتركون الأفضل؟! ويبدو أن المقصود بالأفضل هنا هو ما لديهم من طعام متمثل بالمن والسلوى.
غير أن التفضيل الذي يطرحه القرآن هنا يعود إلى الحياة بكل أبعادها، والتقريع يتجه إلى بني إسرائيل لرغبتهم في التنويع مع ما قد يكشف هذا التنويع من ذلّ وهوان.
وعلى صعيد القيمة الغذائية، فإن الأطعمة النباتية التي طلبها بنو إسرائيل لها قيمتها الغذائية طبعاً، غير أن مقدار الموارد الغذائية النافعة الموجودة في «المن» - وهو العسل أو مادة سكرية مقوّية - وكذلك في لحوم السلوى يفوق ما في الأطعمة النباتية المذكورة، كما أن المن والسلوى أسهل هضماً من الحبوب المذكورة.
ولا بأس من الإِشارة إلى أن «الفوم» الذي طلبه بنو إسرائيل فُسِّر بالحنطة مرة وبالثوم مرة اُخرى، ولكلّ من المادتين قيمتها الغذائية، ويرى بعض أن تفسير الفوم بالقمح أصحّ لاستبعاد أن يطلب القوم طعاماً خالياً من القمح.
4 - ذلة بني إسرائيل ومسكنتهم:
تفيد الآية الكريمة أن بني إسرائيل ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوَ بِغَضَب مِنَ اللهِ﴾ لعاملين:
الاُوّل - لكفرهم بآيات الله، وانحرافهم عن خط التوحيد.
الثاني - لقتلهم الأنبياء بغير حق.
ظاهرة الإِنحراف عن خط التوحيد وظاهرة القسوة والفظاظة، لا زالتا مشهودتين حتى اليوم عند جمع من هؤلاء القوم، ولا زالتا سبباً لشقاوتهم وطيشهم وتعاستهم.
في تفسير الآية 112 من سورة آل عمران تحدثنا بالتفصيل عن مصير اليهود وحياتهم التعيسة، (المجلد الثاني من هذا التّفسير).,
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ هو المن والسلوى أريد بالواحد أنه لا يتبدل وإن تعددا وضرب واحد لأنهما طعام المتلذذين وهم فلاحة نزعوا إلى ما ألفوه ﴿فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا﴾ أطائب الخضر التي تؤكل ﴿وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا﴾ الحنطة أو الخبز أو الثوم ﴿وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ﴾ الله أو موسى ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ تستدعون الأدون ليكون لكم بدلا من الأفضل ﴿اهْبِطُواْ مِصْراً﴾ من الأمصار ﴿فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ الجزية والفقر فاليهود أذلاء مساكين إما على الحقيقة أو التكلف خوف تضاعف الجزية ﴿وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ﴾ رجعوا وعليهم الغضب واللعنة ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ حججه من إفلاق البحر وإظلال الغمام وإنزال المن والسلوى وانفجار الحجر وبالإنجيل والقرآن أو ما في التوراة من صفة محمد ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ بلا جرم منهم إليهم ولا إلى غيرهم كما قتلوا شعيبا وزكريا ويحيى ﴿ذَلِكَ﴾ كرر تأكيدا ﴿بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله مع كفرهم بالآيات وقتلهم الأنبياء وقيل الإشارة إلى الكفر والقتل أي جرهم العصيان والاعتداء إلى الكفر والقتل.