لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير العدالة الإِجتماعية: على غرار الأحكام التي وردت في الآيات السابقة حول تطبيق العدالة مع الأيتام والزوجات تذكر الآية الأخيرة - موضوع البحث - مبدأ أساسياً وقانوناً كلياً في مجال تطبيق العدالة في جميع الشؤون والموارد بدون استثناء، وتأمر جميع المؤمنين بإِقامة العدالة (يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط...). ويجب الإِنتباه إِلى أنّ كلمة "قوامين" هي جمع لكلمة "قوّام" وهي صيغة مبالغة من "قائم" وتعني "كثير القيام" أي أن على المؤمنين أن يقوموا بالعدل في كل الأحوال والأعمال وفي كل العصور والدهور، لكي يصبح العدل جزءاً من طبعهم وأخلاقهم، ويصبح الإِنحراف عن العدل مخالفاً ومناقضاً لطبعهم وروحهم. والإِتيان بكلمة "القيام" في هذا المكان، يحتمل أن يكون بسبب أنّ الإِنسان حين يريد القيام بأي عمل، يجب عليه أن يقوم على رجليه بصورة عامّة ويتابع ذلك العمل، وعلى هذا الأساس فإِن التعبير هنا بالقيام كناية عن العزم والإِرادة الرّاسخة والإِجراء لإِنجاز العمل، حتى لو كان هذا العمل من باب حكم القاضي الذي لا يحتاج إِلى القيام لدى ممارسة عمله. ويمكن أن يكون التعبير بالقيام جاء لسبب آخر، وهو أنّ كلمة "القائم" تطلق عادة على شيء يقف بصورة عمودية على الأرض دون أن يكون فيه انحراف إِلى اليمين أو الشمال، وعلى هذا فإِن المعنى المراد منه في الآية يكون تأكيداً لضرورة تحقيق العدالة دون أقل انحراف إِلى أي جهة كانت. ولتأكيد الموضوع جاءت الآية بكلمة "الشهادة" فشددت على ضرورة التخلي عن كل الملاحظات والمجاملات أثناء أداء الشهادة، وأن يكون هدف الشهادة بالحق هو كسب مرضاة الله فقط، حتى لو أصبحت النتيجة في ضرر الشاهد أو أبيه أو أمه أو أقاربه (شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين...). وقد شاع هذا الأمر في كل المجتمعات، وبالأخص المجتمعات الجاهلية، حيث كانت الشهادة تقاس بمقدار الحبّ والكراهية ونوع القرابة بين الأشخاص والشاهد، دون أن يكون للحق والعدل أثر فيما يفعلون. وقد نقل عن ابن عباس حديث يفيد أنّ المسلمين الجدد كانوا بعد وصولهم إِلى المدينة يتجنبون الإِدلاء بالشهادة لإِعتبارات القرابة والنسب، إِذا كانت الشهادة تؤدي إِلى الاضرار بمصالح اقربائهم، فنزلت الآية المذكورة محذرة لمثل هؤلاء(1). ولكن - وكما تشير الآية الكريمة - فإِنّ هذا العمل لا يتناسب وروح الإِيمان، لأنّ المؤمن الحقيقي هو ذلك الشخص الذي لا يعير اهتماماً للإِعتبارات في مجال الحق والعدل، ويتغاضى عن مصلحته ومصلحة أقاربه من أجل تطبيق الحق والعدل. وتفيد هذه الآية أنّ للأقارب الحق في الإِدلاء بالشهادة لصالح - أو ضد - بعضهما البعض، شرط الحفاظ على مبدأ العدالة (إِلاّ إِذا كانت القرائن تشير إِلى وجود انحياز أو تعصب في الموضوع). وتشير الآية بعد ذلك عوامل الإِنحراف عن مبدأ العدالة، فتبيّن أنّ ثروة الأغنياء يجب أن لا تحول دون الإِدلاء بالشهادة العادلة، كما أنّ العواطف والمشاعر التي تتحرك لدى الإِنسان من أجل الفقراء، يجب أن تكون سبباً في الإِمتناع عن الادلاء بالشهادة العادلة حتى ولو كانت نتيجتها لغير صالح الفقراء، لأنّ الله أعلم من غيره بحال هؤلاء الذين تكون نتيجة الشهادة العادلة ضدهم، فلا يستطيع صاحب الجاه والسلطان أن يضرّ بشاهد عادل يتمتع بحماية الله، ولا الفقير سيبيت جوعاناً بسبب تحقيق العدالة، تقول الآية في هذا المجال: (إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما). وللتأكيد أكثر تحكم الآية بتجنّب اتّباع الهوى، لكي لا يبقى مانع أمام سير العدالة وتحقيقها إِذ تقول الآية: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا)(2). ويتّضح من هذه الجملة - بجلاء - أن مصدر الظلم والجور كلّه، هو اتّباع الهوى، فالمجتمع الذي لا تسوده الأهواء يكون بمأمن من الظلم والجور. ولأهمية موضوع تحقيق العدالة، يؤكّد القرآن هذا الحكم مرّة أُخرى، فيبيّن أنّ الله ناظر وعالم بأعمال العباد - فهو يشهد ويرى كل من يحاول منع صاحب الحق عن حقّه، أو تحريف الحق، أو الاعراض عن الحق بعد وضوحه، فتقول الآية: (وإن تلووا(3) أو تعرضوا فإِن الله كان بما تعملون خبيراً). وجملة (أن تلووا) تشير - في الواقع - إِلى تحريف الحق وتغييره، بينما تشير جملة "تعرضوا" إِلى الإِمتناع عن الحكم بالحق، وهذا هو ذات الشيء المنقول عن الإِمام الباقر(عليه السلام)(4). والطريف أن الآية اختتمت بكلمة (خبيراً) ولم تختتم بكلمة "عليماً" لأنّ كلمة "خبير" تطلق بحسب العادة على من يكون مطلعاً على جزئيات ودقائق موضوع معين، وفي هذا دلالة على أن الله يعلم حتى أدنى انحراف يقوم به الإِنسان عن مسير الحق والعدل بأي عذر أو وسيلة كان، وهو يعلم كل موطن يتعمد فيه إِظهار الباطل حقاً، ويجازي على هذا العمل. وتثبت الآية اهتمام الإِسلام المفرط بقضية العدالة الإِجتماعية، وإِن مواطن التأكيد المتكررة في هذه الآية تبيّن مدى هذا الإِهتمام الذي يوليه الإِسلام لمثل هذه القضية الإِنسانية الإِجتماعية الحساسة، وممّا يُؤسف له كثيراً أن نرى الفارق الكبير بين عمل المسلمين وهذا الحكم الإِسلامي السامي، وإِن هذا هو سرّ تخلف المسلمين. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ مجتهدين في إقامة العدل ﴿شُهَدَاء لِلّهِ﴾ بالحق خبر ثان أو حال ﴿وَلَوْ﴾ كانت الشهادة ﴿عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ بأن تقروا عليها ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ ولو على والديكم وأقاربكم ويشعر بقبولها على الوالد كما هو الأقوى ﴿إِن يَكُنْ﴾ المشهود عليه أو كل منه ومن المشهود له ﴿غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا﴾ فلا تمتنعوا من الشهادة عليهما أو لهما ﴿فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ بالنظر لهما ﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى﴾ في شهادتكم إرادة ﴿أَن تَعْدِلُواْ﴾ عن الحق أو كراهة العدل بين الناس ﴿وَإِن تَلْوُواْ﴾ السنتكم وتحرفوا الشهادة ﴿أَوْ تُعْرِضُواْ﴾ عن إقامتها ﴿فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ فيجازيكم به.