التّفسير
صفات المنافقين:
تبيّن هذه الآية - وآيات أُخرى تالية - قسماً آخر من صفات المنافقين وأفكارهم المضطربة، فتؤكد أنّ المنافقين يسعون دائماً لإِستغلال أي حدث لصالحهم، فلو انتصر المسلمون حاول المنافقون أن يحشروا أنفسهم بين صفوف المؤمنين، زاعمين بأنّهم شاركوا المؤمنين في تحقيق النصر وأدعوا بأنّهم قدموا دعماً مؤثراً للمؤمنين في هذا المجال، مطالبين بعد ذلك بمشاركة المؤمنين في الثمار المعنوية والمادية للنصر حيث تقول الآية في حقهم: (الذين يتربصون بكم فإِن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم...).
وهؤلاء المنافقون ينقلبون على أعقابهم حين يكون النصر الظاهري من نصيب أعداء الإِسلام فيتقربون إِلى هؤلاء الأعداء، ويعلنون لهم الرضى والموافقة بقولهم أنّهم هم الذين شجعوهم على قتال المسلمين وعدم الإِستسلام لهم، ويدعون بأنّهم شركاء في النصر الذي حققه أعداء الإِسلام تقول الآية: (وإِن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين...).(1)
وعلى هذا المنول تحاول هذه الفئة المنافقة أن تستغل الفرصة لدى إنتصار المسلمين ليكون لهم نصيب من هذا النصر وسهم من الغنائم، ولإِظهار المنّة على المسلمين، وفي حالة إِنكسار المسلمين تظهر هذه الفئة الرضى والفرح لدى الكفار، وتدفعهم إِلى الإِصرار على كفرهم وتتجسس لصالحهم، وتهيىء لهم أسباب الفوز المادي، فهم تارة رفاق الطريق مع الكفار، وتارة شركاؤهم في الجريمة، وهكذا يمضون حياتهم بالتلون والنفاق واللعب على الحبال المختلفة.
ولكن القرآن الكريم يوضح بعبارة واحدة مصير هؤلاء ونهايتهم السوداء، ويبيّن أنّهم - لا محالة - سيلاقون ذلك اليوم الذي تكشف فيه الحجب عن جرائمهم ويرفع النقاب عن وجوههم الكريهة، وعند ذلك - أي في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة - سيحكم الله بينهم وهو أحكم الحاكمين، فتقول الآية في هذا المجال: (فالله يحكم بينكم يوم القيامة).
ولكي يطمئن القرآن المؤمنين الحقيقيين من خطر هؤلاء، تؤكد هذه يالآيةـفي آخرها - بأنّ الله لن يجعل للكافرين مجا للإِنتصار أو التسلط على المسلمين، وذلك حيث تقول الآية: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين يسبي).
وهنا يرد هذا السؤال، وهو: هل أنّ العبارة الأخيرة تفيد عدم إنتصار الكفار على المؤمنين من حيث المنطق، أو أنّها تشمل عدم إنتصار الكفار من الناحية العسكرية أيضاً؟
ولما كانت كلمة "سبيل" نكرة جاءت في سياق النفي وتؤدي معنى عاماً، لذلك يفهم من الآية أن الكافرين بالإِضافة إِلى عدم إنتصارهم من حيث المنطق على المؤمنين، فهم لن ينتصروا ولن يتسلطوا على المؤمنين في أي من النواحي العسكرية والسياسية والثقافية والإِقتصادية، بل ولا في أي مجال آخر.
وما نشاهده من إنتصار للكافرين على المسلمين في الميادين المختلفة، إِنّما هو بسبب أنّ المسلمين المغلوبين لم يكونوا ليمثلوا - في الحقيقة - المسلمين، المؤمنين الحقيقيين، بل هم مسلمون نسوا آدابهم وتقاليدهم الإِيمانية، وتخلوا عن مسؤولياتهم وتكاليفهم وواجباتهم الدينية بصورة تامّة، فلا كلام عن الإِتحاد والتضامن والأُخوة الإِسلامية بينهم، ولا هم يقومون بواجب الجهاد بمعناه الحقيقي، كما لم يبادروا إِلى إكتساب العلم الذي أوجبه الإِسلام وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة ودعا إِلى تحصيله وطلبه من يوم الولادة حتى ساعة الوفاة، حيث قال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : "أُطلب العلم من المهد إِلى اللّحد".
ولما أصبحوا هكذا فقد استحقوا أن يكونوا مغلوبين للكفار.
وقد استدل جمع من الفقهاء بهذه الآية على أنّ الكفار لا يمكن أن يتسلطوا على المسلمين المؤمنين من الناحية الحقوقية والحكمية، ونظراً للعمومية الملحوظة في الآية، لا يستبعد أن تشمل الآية هذا الأمر أيضاً.
وممّا يلفت النظر في هذه الآية هو التعبير عن انتصار المؤمنين بكلمة "الفتح" بينما عبّرت الآية عن انتصار الكفار بكلمة "النصيب" وهو إِشارة إِلى أن إنتصار الكفار إِنّما هو نصيب محدود وزائل، وأنّ الفتح والنصر النهائي هو للمؤمنين.
﴿الَّذِينَ﴾ بدل من الذين يتخذون أو صفة للمنافقين والكافرين أو ذم منصوب أو مرفوع ﴿يَتَرَبَّصُونَ﴾ ينتظرون ﴿بِكُمْ﴾ وقوع أمر ﴿فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ﴾ مجاهدين فأعطونا من الغنيمة ﴿وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ من الظفر ﴿قَالُواْ﴾ لهم ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ﴾ نستولي ﴿عَلَيْكُمْ﴾ ونقدر على قتلكم فأبقينا عليكم ﴿وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بتخذيلهم عنكم وإفشاء أسرارهم إليكم فأعطونا مما أصبتم ﴿فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ أي حجة أو يوم القيامة.