التّفسير
لقد ذكرت الآيات السابقة بعضاً من النعم الإِلهية، وجاءت الآية الأخيرة تخاطب المسلمين وتذكر لهم أنواعاً من النعم التي أنعم الله بها عليهم، لكي يؤدوا شكرها عن طريق طاعة الله والسعي لتحقيق مبادىء العدالة، فتقول الآية: (يا أيّها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إِليكم أيديهم فكفّ أيديهم عنكم...).
وقد دأب القرآن الكريم في كثير من آياته على تذكير المسلمين بالنعم المختلفة التي أنعم الله بها عليهم، وذلك من أجل تعزيز دافع الإِيمان لديهم، ولإِستثارة وتحفيز دافع الشكر والصمود فيهم ليقفوا بوجه المشاكل، والآية الأخيرة من سنخ تلك الآيات.
واختلف المفسّرون حول الواقعة التي تشير إِليها الآية موضوع البحث، فبعضهم قال: بأنّها إِشارة إِلى إِنقاذ المسلمين من قبيلة "بني النضير" اليهودية التي تواطأت على قتل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين في المدينة.
وذهب البعض الآخر من المفسّرين على أنّها إِشارة إِلى واقعة "بطن النخل" التي حصلت في العام السادس من الهجرة النبوية في واقعة "الحديبية" حيث قرر المشركون هناك في ذلك الحين - بزعامة (خالد بن الوليد) - الهجوم على المسلمين أثناء أدائهم لصلاة العصر، فعلم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه المؤامرة فصلّى صلاة الخوف القصيرة، ممّا أدى إِلى إِحباط المؤامرة.
وقد ذكر مفسّرون آخرون وقائع أُخرى من حياة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين المليئة بالحوداث، وقالوا بأنّ هذه الآية إِشارة لتلك الوقائع.
ويرى مفسّرون آخرون أن هذه الآية إِشارة إِلى كل الوقائع والأحداث التي حصلت طيلة التاريخ الإِسلامي حتى ذلك الوقت.
ولو تغاضينا عن كلمة "قوم" الواردة في هذه الآية بصيغة النكرة التي تدل على وحدة المجموعة المعنية، فإِنّ هذا التّفسير يمكن اعتباره من أحسن التفاسير في هذا المجال.
والآية على كل حال تلفت إنتباه المسلمين إِلى الأخطار التي تعرضوا لها، وكان يحتمل أن تدفع بالوجود الإِسلامي إِلى الفناء والزوال وإِلى الأبد، ولكن فضل الله ونعمته شملتهم وأنقذت الإِسلام والمسلمين من تلك الأخطار.
كما تحذر الآية المسلمين وتنبههم إِلى ضرورة إلتزام التقوى والإِعتماد على الله كدليل على شكر ذلك الفضل وتلك النعمة، وليعلموا بأنّهم بتقواهم سيضمنون لأنفسهم الدعم والسند والحماية من الله في حياتهم الدنيوية هذه، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: (واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون).
وواضح أنّ التوكل على الله ليس معناه التخلي عن المسؤوليات أو الإِستسلام لحوادث الزمان، بل يعني أنّ الإِنسان حين يستخدم طاقاته والإِمكانيات المتوفرة لديه، يجب عليه أن ينتبه في نفس الوقت إِلى أنّ هذه الطاقات والإِمكانيات ليست من عنده بل أن مصدرها ومنشأها هو الله تعالى، وإِذا حصل هذا التوجه فإن من شأنه أن يقضي على دافع الغرور والأنانية عند يالإِنسان أوّ، ومن ثمّ لا يدع إِلى نفسه طريقاً للخوف والقلق واليأس حيال الأحداث والمشاكل مهما كبرت وعظمت، لأنّه يعلم بأنّ سنده وحاميه هو الله الذي فاقت قدرته كل القدرات.
إِضافة إِلى ما ذكر، فإِنّ تقديم الأمر بالتقوى على قضية التوكل يستشف منه أنّ حماية الله ورعايته تشمل حال المتقين.
ويجب الإِنتباه إِلى أنّ عبارة "التقوى" المشتقة من المصدر "وقاية" معناها حماية النفس وإِبعادها عن عناصر السوء والفساد.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ﴾ يعني أهل مكة من قبل فتحها ﴿أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ بالقتل ﴿فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ﴾ بالصلح يوم الحديبية ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فإنه يكفي من توكل عليه.