التّفسير
يلقد أشارت هذه الآية أوّ إِلى قضية الوفاء بالعهد، وقد تكررت هذه الإِشارة في مناسبات مختلفة في آيات قرآنية عديدة، وربّما كانت إِحدى فلسفات هذا التأكيد المتكرر على أهمية الوفاء بالعهد وذم نقضه، هي إِعطاء أهمية قصوى لقضية ميثاق الغدير الذي سيرد في الآية (67) من هذه السورة.
والآية في بدايتها تشير إِلى العهد الذي أخذه الله من بنيإِسرائيل على أن يعملوا بأحكامه، وإرسالة إِليهم بعد هذا العهد اثني عشر زعمياً وقائداً ليكون كل واحد منهم زعيماً لطائفة واحدة من طوائف بني إِسرائيل الإِثنتي عشر - حيث تقول الآية الكريمة: (ولقد أخذ الله ميثاق بنيإِسرائيل وبعثنا منهم إثنيعشر نقيباً).
والأصل في كلمة "نقيب" إنّها تعني الثقب الكبير الواسع، وتطلق بالأخص على الطرق المحفورة تحت الأرض، وسبب استخدام كلمة نقيب للدلالة على الزعامة، لأنّ زعيم كل جماعة يكون عليماً بأسرار قومه، وكأنّه قد صنع ثقباً كبيراً يطلع من خلاله على أسرارهم، كما تطلق كلمة نقيب أحياناً على الشخص الذي يكون بمثابة المعرف للجماعة، وحين تطلق كلمة "مناقب" على الفضائل والمآثر، يكون ذلك لأنّ الفضائل لا تعرف إِلاّ عن طريق البحث والتنقيب في آثار الشخص.
وذهب بعض المفسّرين إِلى أنّ كلمة "نقيب" الواردة في الآية موضوع البحث إِنما تعني - فقط - العارف بالأسرار، لكننا نستبعد هذا الأمر استناداً لما يدلنا عليه التاريخ والحديث وهو أن نقباء بنيإِسرائيل هم زعماء الطوائف الإِسرائيلية، جاء في تفسير "روح المعاني" عن ابن عباس قوله: "إِنّهم كانوا وزراء ثمّ صاروا أنبياء بعد ذلك".
أي أنّهم كانوا وزراء للنّبي موسى(عليه السلام) ثمّ نالوا منزلة النّبوة بعده(1).
ونقرأ في أحوال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه حين قدم أهل المدينة في ليلة العقبة لدعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى منطقة العقبة، أمر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل المدينة لينتخبوا من بينهم اثنيعشر نقيباً على عدد نقباء بنيإِسرائيل، وبديهي أنّ مهمّة هؤلاء كانت زعامة قومهم وليس فقط إِخبار النّبي بتقارير عن أوضاعهم(2).
لقد وردت روايات عديدة من طرق السنة، وهي تلفت الإِنتباه - لما فيها من إِشارة إِلى خلفاء النّبي الأئمّة الإِثني عشر(عليهم السلام) وبيان أن عددهم يساوي عدد نقباء بنيإِسرائيل - ننقل هنا قسماً من هذه الروايات:
1 - ينقل "أحمد بن حنبل" ـ وهو أحد أئمّة السنّة الأربعة، عن "مسروق" أنّه سأل عبد الله بن مسعود: كم عدد الذين سيحكمون هذه الأُمّة؟ فرد ابن مسعود قائلا: "لقد سألنا رسولالله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: "اثنيعشر كعدّة نقباء بنيإِسرائيل"(3).
2 - وجاء في تاريخ "ابن عساكر" عن ابن مسعود، أنّهم سألوا النّبي عن عدد الخلفاء الذين سيحكمون هذه الأُمّة، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : "إِنّ عدّة الخلفاء بعدي عدة نقباء موسى"(4).
3 - وورد في "منتخب كنز العمال" عن جابر بن سمرة قوله "سيحكم هذه الأُمّة اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بنيإِسرائيل"(5).
وجاء مثل هذا الحديث أيضاً في كتاب (ينابيع المودة) في الصفحة 445 وكذلك في كتاب (البداية والنهاية)، ج 6 في الصفحة 247 أيضاً.
وتشير الآية بعد ذلك إِلى وعد الله لبني إِسرائيل حيث تقول: (وقال الله إِنّي معكم).
وإِنّ هذا الوعد سيتحقق إِذا التزم بنوإِسرائيل بالشروط التالية:
1 - أن يلتزموا بإِقامة الصّلاة كما تقول الآية: (لئن أقمتم الصّلاة).
2 - وأن يدفعوا زكاة أموالهم: (وآتيتم الزكاة).
3 - أن يؤمنوا بالرسل الذين بعثهم الله ويحترموا وينصروا هؤلاء الرسل، حيث تقول الآية (وآمنتم برسلي وعزرتموهم)(6).
4 - وبالإِضافة إِلى الشروط الثلاثة المذكورة أعلاه، أن لا يمتنع بنوإِسرائيل عن القيام ببعض أعمال الإِنفاق المستحب التي تعتبر نوعاً من معاملات القرض الحسن مع الله سبحانه وتعالى حيث تقول الآية: (وأقرضتم الله قرضاً حسناً).
ثمّ أردفت الآية الكريمة ببيان نتائج الوفاء بالشروط المذكورة بقوله تعالى: (لأكفّرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنّكم جنّات تجري من تحتها الأنهار).
كما بيّنت الآية مصير الذين يكفرون ولا يلتزمون بما أمر الله حيث تقول: (فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل).
لقد أوضحنا في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا لماذا اصطلح القرآن المجيد على الإِنفاق، أنّه قرض لله سبحانه؟
ويبقى في هذا المجال - أيضاً - سؤال أخير وهو لماذا تقدمت مسألتا الصّلاة والزكاة على الإِيمان بموسى(عليه السلام)، في حين أنّ الإِيمان يجب أن يسبق العمل؟
ويجيب بعض المفسّرين على هذا السؤال بقولهم: إِن المراد بعبارة "الرسل" الواردة في الآية هم الأنبياء الذين جاءوا بعد النّبي موسى(عليه السلام) وليس موسى نفسه، لذلك فإِن الأمر الوارد هنا بخصوص الإِيمان بالرسل يحمل على أنّه أمرّ لمّا يستقبل من الزمان، فلا يتعارض لذلك وروده بعد الأمر بالصّلاة والزكاة، كما يحتمل - أيضاً - أن يكون المراد بعبارة "الرسل" هم "نقباء" بنيِ اسرائيل حيث أخذ الله الميثاق من بني أِسرائيل بأن يكونوا أولياء معهم، (ونقرأ في تفسير "مجمع يالبيان" أنّ بعضاً من المفسّرين القدماء، احتملوا أن يكون نقباء بني أِسرائيل رس من قبل الله، ويؤيد هذا الإِحتمال الرأي الأخير الذي ذهبنا إِليه).
﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ﴾ بأن يخرجوا إلى أريحا لقتل جبابرتها ﴿وَبَعَثْنَا﴾ التفات ﴿مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ كفيلا شهيدا من كل سبط يأمرهم بالوفاء بما أمروا به ﴿وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ﴾ للقسم ﴿أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ نصرتموهم وأصله المنع ومنه التعزيز ﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ﴾ بالإنفاق في سبيله ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ مصدر أو مفعول ﴿لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ جواب للقسم ناب جواب الشرط ﴿وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ الميثاق ﴿مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾ أخطأ طريق الحق.