التّفسير
ياستكما للبحوث السابقة التي تناولت بعض إنحرافات اليهود والنصارى، تشير الآية الأخيرة إِلى أحد الدعاوى الباطلة التي تمسك بها هؤلاء، فتقول: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله واحباؤه).
ولم يكن هذا الإِمتياز الوهمي الذي إِدعاه اليهود والنصارى لأنفسهم هو الوحيد من نوعه، إِذ أن القرآن الكريم قد أشار في آيات عديدة إِلى أمثال هذه الإِدعاء.
ففي الآية (111) من سورة البقرة، أشار القرآن إِلى إدعائهم الذي زعموا فيه أن أحداً غيرهم لا يدخل الجنّة، وزعموا أن الجنّة هي حكر على اليهود والنصارى، وقد فند القرآن هذه الإِدعاء.
كما جاء الآية (80) من سورة البقرة إدعاء آخر لليهود، وهو زعمهم أن نار جهنم لن تمسهم إِلا في أيّام معدودة، وقد وبخهم القرآن على زعمهم هذا.
وفي الآية الأخيرة يشير القرآن الكرم إِلى ادعائهم البنوة لله، وزعمهم أنّهم أحباء لله، ولا شك أن هؤلاء لم يعرّفوا أنفسهم كأبناء حقيقيين لله، بل إنّ المسيحيين وحدهم يدّعون أن المسيح هو الإِبن الحقيقي لله، وقد صرحوا بهذا الأمر(1) وأنّهم حين اختاروا لأنفسهم صفة البنوة لله وأدعوا بأنّهم الله إِنما ليظهروا بأن لهم علاقة خاصّة بالله سبحانه، وكأنّهم أرادوا كل من ينتمي إِليهم انتماء قومياً أو عقائدياً يصبح من أبناء الله وأحبائه حتى لو لم يقم بأي عمل صالح.(2)
وواضح لدينا أنّ القرآن الكريم حارب كل هذه الإِمتيازات والدعاوى الوهمية، فهو لا يرى للإِنسان امتيازاً إِلاّ بالإِيمان والعمل الصالح والتقوى، ولذلك تقول الآية الأخيرة في تفنيد وإِبطال الإِدعاء الأخير: (قل فلم يعذبكم بذنوبكم)فهؤلاء - بحسب اعترافهم أنفسهم - يشملهم العذاب الإِلهي حيث قالوا بأن العذاب يمسّهم لأيّام معدودة، فكيف يتلاءم ذلك الإِدعاء وهذا الإِعتراف؟ وكيف يمكن أن يشمل عذاب الله أبناءه وأحباءه؟! ومن هنا يثبت أن لا أساس ولا صحة لهذا الإِدعاء، وقد شهد تاريخ هؤلاء على أنّهم حتى في هذه الدنيا ابتلوا بسلسلة يمن العقوبات الإِلهية، ويعتبر هذا دلي آخر على زيف وبطلان دعواهم تلك.
ولكي تؤكد الآية الكريمة زيف وبطلان الدعوى المذكورة استطردت تقول: (بل أنتم بشر ممن خلق...) والقانون الإِلهي عام، فإِن الله (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء...).
وبالإضافة إِلى ذلك فإِنّ كل البشر هم من خلق الله، وهم عباده وأرقاؤه، وعلى هذا الأساس ليس من المنطق إِطلاق اسم "ابن الله" على أي منهم، حيث تقول الآية: (ولله ملك السموات والأرض وما بينهما...).
وفي النهاية تعود المخلوقات كلها إِلى الله، حيث تؤكد الآية هنا بقولها: (وإِليه المصير).
وقد يسأل البعض: أين ومتى إدعى اليهود والنصارى أنّهم أبناء الله حتى لو كان معنى البنوة في هذه الآية هو معنى مجازي وغير حقيقي).
الجواب:
هو أنّ الأناجيل المتداولة قد ذكرت هذه العبارة، ويلاحظ ذلك فيها بصورة متكررة، من ذلك ما جاء في إِنجيل يوحنا في الإِصحاح 8 - الآية 41 وما بعدها، حيث نقرأ على لسان عيسى في خطابه لليهود قوله: "إِنّكم تمارسون أعمال أبيكم، فقال له اليهود: نحن لم نولد من الزنا وإِن أبانا واحد وهو الله! فقال لهم عيسى: لو كان أبوكم هو الله لكنتم احببتموني... ".
وقد ورد في الروايات الإِسلامية - أيضاً - في حديث عن ابن عباس مضمونه أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا جمعاً من اليهود إِلى دين الإِسلام وحذّرهم من عذاب الله، فقال له اليهود: كيف تخوفنا من عذاب الله ونحن أبناؤه وأحباؤه(3)!
وورد في تفسير مجمع البيان، في تفسير الآية موضوع البحث، حديث على غرار الحديث المذكور أعلاه، مضمونه أنّ جمعاً من اليهود حين هددهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعذاب الله قالوا: لا تهددنا فنحن أبناء الله وأحباؤه، وهو إِن غضب علينا يكون غضبة كغضب الإِنسان على ولده، وهو غضب سريع الزوال.
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ أشياع ابنيه عزير والمسيح كما يقول حشم الملك نحن ملوك أو مقربون عنده قرب الأولاد من والدهم ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾ بالقتل والأسر والمسخ والنار أياما معدودة كما زعمتم والأب لا يعذب ابنه ولا الحبيب حبيبه ﴿بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ﴾ كسائر الناس ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ فيجازي كلا بعمله.