التّفسير
تكرر هذه الآية الخطاب إِلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فتبيّن لهم أنّ النّبي المرسل إِليهم مرسل من عند الله، أرسله في عصر ظلت البشرية قبله فترة دون أن يكون لها نبيّ، فبيّن لهم هذا النّبي الحقائق، لكي لا يقولوا بعد هذا إِنّ الله لم يرسل إِليهم من يهديهم إِلى الصراط السوي ويبشرهم بلطف الله ورحمته ويحذرهم من الإِنحراف والإِعوجاج، وينذرهم بعذاب الله، حيث تقول الآية: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير...).
نعم، فالبشير والنذير هو نبيّ الإِسلام محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات برحمة الله وثوابه، وينذر الذين كفروا والعاصين بعذاب الله وعقابه، وقد جاء ليبشر ولينذر أهل الكتاب والبشرية جمعاء، حيث تؤكّد الآية هذا بقوله تعالى: (فقد جاءكم بشير ونذير).
أمّا كلمة "فترة" الواردة في الآية فهي تعني في الأصل الهدوء والسكينة كما تطلق على الفاصلة الزمنية بين حركتين أو جهدين أو نهضتين أو ثورتين.
وقد شهدت الفاصلة الزمنية بين موسى(عليه السلام) وعيسى(عليه السلام) عدداً من الأنبياء والرسل، بينما لم يكن الأمر كذلك في الفاصلة الزمنية بين عيسى(عليه السلام) والنّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولذلك أطلق القرآن الكريم على هذه الفاصلة الأخيرة إِصطلاح (فترة من الرسل) والمعروف أن هذه الفترة دامت ستمائة عام تقريباً(1).
أمّا ما جاء في القرآن - في سورة يس الآية 14 - وما ذكره المفسّرون، فيدلان على أنّ ثلاثة من الرسل - على الأقل - قد بعثوا في الفاصلة الزمنية بين النّبي عيسى(عليه السلام) ونبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد ذكر البعض أنّ أربعة من الرسل بعثوا في تلك المدة، وعلى أي حال لابدّ أن تكون هناك فترة خلت من الرسل بين وفاة اُولئك الرسل والنّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولذلك عبّر القرآن عن تلك الفترة الخالية من الرسل بقوله: (على فترة من الرسل).
سؤال:
وقد يعترض البعض بأنّه كيف يمكن القول بوجود مثل تلك الفترة مع أنّ الإِعتقاد السائد لدينا يقضي بأن المجتمع البشري لا يمكن أن يخلو ولو للحظة من رسول أو إِمام معين من قبل الله سبحانه وتعالى؟
الجواب:
إنّ القرآن الكريم حين يقول: (على فترة من الرسل) إِنّما ينفي وجود الرسل في تلك المدّة، ولا يتنافى هذا الأمر مع القول بوجود أوصياء للرسل في ذلك الوقت.
وبعبارة أُخرى، فإِنّ الرسل هم أشخاص كانوا يمارسون الدعوة على نطاق واسع، وكانوا يبشرون وينذرون الناس، ويثيرون الحركة والنشاط في المجتمعات، ويوقظونها من سباتها بهدف إِيصال ندائهم الى الجميع، بينما لم يكن جميع أوصياء الرسل ليحملوا مثل تلك المهمّة، بل يحتمل - أيضاً - إِنهم لظروف وعوامل اجتماعية خاصّة، كانوا يعيشون بين الناس أحياناً متخفين متنكرين.
ويقول أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في إِحدى خطبه الواردة في كتاب "نهج البلاغة" في هذا المجال ما يلي: "اللّهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إِمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم"(2).
وواضح أن المجتمع البشري لو خلى من الرسل الثوريين والدعاة العالمين، لعمت هذه المجتمع الخرافات والوساوس الشيطانية والإِنحرافات والجهل بالتعاليم الإِلهية، وتكون مثل هذه الحالة خير حجة بأيدي اُولئك الذين يريدون الفرار والتخلي عن المسؤوليات، لذلك فإِن الله يبطل هذه الحجة عن طريق الرجال الرساليين المرتبطين به والموجودين دائماً بين أبناء البشر.
وفي الختام تؤكد الآية على شمولية قدرة الله عزَّ وجلَّ فتقول: (والله على كل شيء قدير) وهذا بيان بأنّ إِرسال الأنبياء والرسل وتعيين أوصياتهم أمر يسير بالنسبة لقدرة الله العزيز المطلقة.
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾ ما يحتاج إلى البيان ﴿عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ﴾ على حين فتور من إرسال الرسل إذ ليس بينه وبين عيسى رسول بل أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي ومدة ذلك 669 سنة ستمائة وتسع وستون سنة ﴿أَن﴾ كراهة أن أو لأن ﴿تَقُولُواْ﴾ اعتذارا ﴿مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ فلا عذر لكم إذا ﴿وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ من الإرسال وغيره.