تقول الآية الكريمة، (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه)(1).
ولا غرابة في أن يتعلم إِنسان شيئاً من طير من الطيور، فالتاريخ والتجربة يدلان على أنّ للكثير من الحيوانات مجموعة من المعلومات الغريزية تعلمها يمنها البشر على طول التاريخ، مكملا بذلك معلوماته ومعارفه، وحتى بعض الكتب الطبيّة تذكر أنّ الإِنسان مدين في جزء من معلوماته الطبية للحيوانات!
ثمّ تشير الآية الكريمة إِلى أنّ قابيل استاء من غفلته وجهله، فأخذ يؤنب نفسه كيف أصبح أضعف من الغراب فلا يستطيع دفن أخيه مثله، فتقول الآية: (قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي...).
وكانت العاقبة أن ندم قابيل على فعلته الشنيعة كما تقول الآية: (فأصبح من النادمين).
فهل كان ندمه على جريمته، خوفاً من افتضاح أمره أمام أبويه؟ أو ربّما أخوته الآخرين الّذين كانوا سيلومونه على فعلته؟ أم أنّ ندمه كان إِشفاقاً على نفسه، لأنه حمل جسد أخيه القتيل لفترة دون أن يعلم ماذا يفعل به أو كيف يدفنه؟ أم كان سبب الندم هو ما يشعر به الإِنسان - عادة - من قلق واستياء بعد إرتكاب كل عمل قبيح؟
مهما كانت أسباب الندم ودوافعه لدى "قابيل" فذلك لا يعني أنّه تاب من فعلته وجريمته التي ارتكبها، فالتوبة معناها أن لا يعاود الإِنسان المذنب تكرار الذنب، خوف من الله واستقباحاً للذنب، ولم يشر القرآن الكريم إِلى صدور مثل هذه التوبة عن "قابيل"، وقد تكون الآية التالية إِشارة إِلى عدم صدور التوبة عنه.
ورد في حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: "لا تقتل نفس ظلماً إِلاّ كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنّه كان أوّل من سن القتل"(2).
ويستدل من هذا الحديث أيضاً على أنّ من سنّ سُنّة سيئة، سيبقى يتحمل وزرها مادامت باقية في الدنيا.
ممّا لا ريب فيه أنّ قصّة ولدي آدم(عليه السلام) قصّة حقيقية، يثبتها ظاهر الآيات القرآنية الأخيرة والروايات الإِسلامية، كما أنّ عبارة "بالحق" الواردة في هذه القصّة القرآنية تعتبر شاهداً على هذا الأمر، وعلى هذا الأساس فإِنّ الأقوال التي افترضت لهذه القصّة طابعاً رمزياً من قبيل التشبيه أو الكناية أو القصّة المفترضة لا أساس لها مطلقاً.
لا مانع من أن تكون هذه القصّة الحقيقية مثا من الصراع الدائم الذي يطغى على المجتمعات البشرية، حيث يقف في أحد جانبيه أناس جبلوا على الطهارة والصفاء والإِيمان والعمل الصالح المقبول عند الله، وفي الجانب الآخر يقف أفراد تدنسوا بالإِنحراف وجبلوا على الحقد والحسد والضغينة والبغضاء والعمل الشرير.
وكم هو العدد الكبير من اُولئك الإبرار الأخيار الذين ذاقوا حلاوة الشهادة على أيدي هؤلاء الأشرار الذين سيدركون - في النهاية - فظاعة الأعمال الآثمة التي ارتكبوها، وسيسعون إِلى إِخفائها والتستر عليها، فتظهر لهم في مثل هذه اللحظات آمالهم السوداء الشبيهة بالغراب - المذكور في الآية القرآنية الأخيرةـفتحثّهم وتدفعهم إِلى إِخفاء جرائمهم، لكنّهم سوف لا يجنون في النهاية غير الخيبة والخسران
﴿فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ﴾ روي لما قتله لم يدر ما يصنع به فجاء غرابان فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمخالبه ودفن فيه صاحبه ﴿لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي﴾ يستر ﴿سَوْءةَ أَخِيهِ﴾ جسده الميت فإنه يستقبح أن يرى ﴿قَالَ يَا وَيْلَتَا﴾ احضري فهذا وقتك وألفها بدل ياء المتكلم ﴿أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ﴾ في العلم ﴿فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ على قتله لاسوداد جسده وتبري أبيه منه وحمله له سنة إذ تخير فيه ولم يندم عن توبة.