التّفسير
إِنّ هذه الآية والآية التي تليها تكملان البحث أو الموضوع الوارد في الآيات السابقة، وتبيّن هذه الآية أهمية الكتاب السماوي الذي نزل على النّبي موسى (ع) أي التّوراة، حيث تشير إِلى أنّ الله أنزل هذا الكتاب وفيه الهداية والنّور اللذان يرشدان إِلى الحق، وأن النّور والضياء الذي فيه هو لإِزاحة ظلمات الجهل من العقول فتقول الآية: (إِنّا أنزلنا التّوراة فيها هدى ونور...).
ولذلك فإِنّ الأنبياء الذين أطاعوا أمر الله، والذين تولوا مهامهم بعد نزول التّوراة كانوا يحكمون بين اليهود بأحكام هذا الكتاب، تقول الآية الكريمة: (يحكم بها النّبيّون الذين أسلموا للذين هادوا).
كما أنّ علماء اليهود ووجائهم ومفكريهم المؤمنين الأتقياء، كانوا يحكمون وفق هذا الكتاب السماوي الذي وصل أمانة بأيديهم وكانوا شهوداً عليه، حيث تقول الآية: (والرّبانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء). (1)
ثمّ توجه الآية الخطاب إِلى أُولئك العلماء والمفكرين من اليهود الذين كانوا يعيشون في ذلك العصر، فتطلب منهم أن لا يخافوا الناس لدى بيان أحكام الله، بل عليهم أن يخافوا الله، فلا تسول لهم أنفسهم مخالفة أوامره أو كتمان الحق، وإِن فعلوا ذلك فسيلقون الجزاء والعقاب، فتقول الآية هنا: (فلا تخشوا الناس واخشون).
ثمّ تحذر الآية من الإِستهانة والإِستخفاف بآيات الله، فتقول: (ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلا...).
وحقيقة كتمان الحق وأحكام الله نابعة إمّا عن الخوف من الناس، وإمّا بدافع المصلحة الشخصية، وأيّاً كان السبب فهو دليل على ضعف الإِيمان وانحطاط الشخصية، وقد أشير في الجمل القرآنية أعلاه إِلى هذين السببين.
وتصدر الآية حكماً صارماً وحازماً على مثل هؤلاء الأفراد الذين يحكمون خلافاً لما أنزل الله فتقول: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأُولئك هم الكافرون).
وواضح أنّ عدم الحكم بما أنزل الله يشمل السكوت والإِبتعاد عن حكم الله الذي يؤدي بالناس إِلى الضلال، كما يشمل التحدث بخلاف حكم الله.
وواضح - أيضاً - أنّ للكفر مراتب ودرجات مختلفة، تبدأ من إِنكار أساس وجود الله ويشمل عصيان أوامره، لأنّ الإِيمان الكامل يدعو ويحثّ الإِنسان على العمل وفق أوامر الله، ومن لا عمل له ليس له ايمان كامل.
وتبيّن هذه الآية - أيضاً - المسؤولية الكبرى التي يتحملها علماء ومفكروا كل أُمّة حيال العواصف الإِجتماعية، والأحداث التي تقع في بيئاتهم، وتدعو بأسلوب حازم لمكافحة الإِنحرافات وعدم الخوف من أي بشر - كائناً من كان - لدى تطبيق أحكام الله.
﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى﴾ إلى الحق ﴿وَنُورٌ﴾ بيان للأحكام ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ﴾ من بني إسرائيل وموسى ومن بعده فيما تتوافق فيه الشريعتان ﴿الَّذِينَ أَسْلَمُواْ﴾ صفة مادحة ﴿لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ﴾ الكاملون علما وعملا ﴿وَالأَحْبَارُ﴾ العلماء ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُواْ﴾ بسبب الذي كلفهم الله حفظه عن التبديل ﴿مِن كِتَابِ اللّهِ﴾ بيان لما ﴿وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء﴾ أنه حق أو رقباء لئلا يبدل ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ﴾ أيها الحكام في حكوماتكم أو أيها اليهود في إظهار الحق ﴿وَاخْشَوْنِ﴾ في الحكومة أو كتمان الحق ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً﴾ رشوة أو جاها ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ للاستهانة ويأتي إن شاء الله وصفهم بالظلم لحكمهم بخلافه والفسق لخروجهم عنه والصفات الثلاث عامة وقيل في اليهود خاصة وقيل هذه في المسلمين والظالمون في اليهود والفاسقون في النصارى.