التّفسير
الإِمتناع عن الحكم بالقانون الإِلهي:
بعد أن أشارت الآيات السابقة إِلى نزول الإِنجيل، أكّدت الآية الأخيرة أنّ حكم الله يقضي أن يطبق أهل الإِنجيل ما أنزله الله في هذا الكتاب من أحكام، فتقول الآية: (وليحكم أهل الإِنجيل ما أنزل الله فيه...).
وبديهي أنّ القرآن لا يأمر بهذه الآية المسيحيين أن يواصلوا العمل بأحكام الإِنجيل في عصر الإِسلام، ولو كان كذلك لناقض هذا الكلام الآيات القرآنية الأُخرى، بل لناقض أصل وجود القرآن الذي أعلن الدين الجديد ونسخ الدين القديم، لذلك فالمراد هو أنّ المسيحيين تلقوا الأوامر من الله بعد نزول الإِنجيل بأن يعملوا بأحكام هذا الكتاب وأن يحكموها في جميع قضاياهم (1).
وتؤكّد هذه الآية - في النهاية - فسق الذين يمتنعون عن الحكم بما أنزل الله من أحكام وقوانين فتقول: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأُولئك هم الفاسقون).
ويلفت النظر اطلاق كلمة "الكافر" مرّة و"الظّالم" أُخرى و"الفاسق" ثالثة، في الآيات الأخيرة على الذين يمتنعون عن تطبيق أحكام الله، ولعل هذا التنوع في اطلاق صفات مختلفة إِنّما هو لبيان أنّ لكل حكم جوانب ثلاثة:
أحدها: ينتهي بالمشرع الذي هو الله.
والثّاني: يمس المنفذين للحكم (الحاكم أو القاضي).
الثّالث: يرتبط بالفرد أو الأفراد الذين يطبق عليهم الحكم.
أي أنّ كل صفة من الصفات الثلاث المذكورة قد تكون إِشارة إِلى واحد من الجوانب الثلاثة، لأنّ الذي لا يحكم بما أنزل الله يكون قد تجاوز القانون الإِلهي وتجاهله، فيكون قد كفر بغفلته هذه، ومن جانب آخر ارتكب الظلم والجور بابتعاده عن حكم الله - على انسان برىء مظلوم، وثالثاً: يكون قد خرج عن حدود واجباته ومسؤوليته، فيصبح بذلك من الفاسقين (لأنّ "الفسق" كما أوضحنا، يعني الخروج عن حدود العبودية والواجب).
﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ دلت الآية على اشتمال الإنجيل على الأحكام واستقلال شرع عيسى ونسخه لليهودية.