سبب النّزول
نقل بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس قوله: أنّ رهطاً من وجهاء اليهود تآمروا واتفقوا على الذهاب إِلى النّبي محمّد (ص) بغية حرفِهِ عن الإِسلام، فذهبوا إِليه (ص) وذكروا له أنّهم قوم من مفكري وعلماء اليهود، وأنّهم إِن اتبعوه (ص) اقتدى بهم بالتأكيد بقية اليهود، وزعموا أنّ بينهم وبين جماعة أُخرى نزاع (في قضية قتل أو أمر آخر) وطلبوا من النّبي محمّد (ص) أن يحكم في النزاع المزعوم لمصلحتهم، ووعدوه أنّه إِن استجاب لأمرهم يؤمنوا به، فامتنع النّبي محمّد (ص) عن إِصدار حكم غير عادل، فنزلت الآية المذكورة (1).
التّفسير
تكرر هذه الآية تأكيد الباري عزّ وجلّ على نبيّه محمّد (ص) في أن يحكم بين أهل الكتاب طبقاً لأحكام الله، وأن لا يستسلم لأهواءهم ونزواتهم، فتقول: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم...).
والتكرار للأمر هنا إمّا أن يكون بسبب المواضيع التي اشتملت عليها الآية، وإمّا لأنّ موضوع الحكم في هذه الآية يختلف عن موضوع الحكم في الآيات السابقة، حيث كان موضوع الحكم في الآيات السابقة هو الزنا مع المحصنة، وموضوع الحكم في هذه الآية هو القتل أو شيء آخر.
ثمّ تحذر الآيه النّبي (ص) من مؤامرة هؤلاء الذين أرادوا عدول النّبي (ص) عن شرعة الحقّ والعدل، وطالبته بأن يراقب تحركاتهم، حيث تقول: (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إِليك...).
وأكّدت هذه الآية استمراراً لخطابها لنبي الإِسلام محمّد (ص) أنّ هؤلاء الكتابيين إِن لم يذعنوا لحكمه العادل فإنّ ذلك يكون دلالة على أن ذنوبهم وآثامهم قد طوقتهم فحرمتهم من التوفيق، وأنّ الله يريد أن يعاقبهم ويعذبهم بسبب بعض ذنوبهم، حيث تقول الآية: (فإن تولوا فاعلم إِنّـما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم...).
وسبب ذكر "بعض الذنوب" لا كلّها، قد يكون لأنّ عقاب كل الذنوب لا يتم في الحياة الدنيا بل يذوق وبال بعضها، والباقي منها يوكّل أمرها إِلى العالم الثّاني، أي بعد الموت.
ولم تصرّح هذه الآية بنوع الذنوب التي طوقت وأحاطت بهؤلاء، ويحتمل أن تكون إِشارة إِلى المصير الذي أحاط بيهود المدينة، بسبب الخيانات المتوالية التي مارسوها، ممّا اضطرهم إِلى ترك بيوتهم ومغادرة المدينة المنورة، أو أن يكون فشل هؤلاء وحرمانهم من التوفيق نوعاً من العقاب لهم على ذنوبهم السابقة، لأنّ الحرمان من التوفيق يعتبر - بحد ذاته - نوعاً من العقاب، أي أن الذنوب المتتالية والعناد والإِصرار على الذنب، جزاؤهما الحرمان من الأحكام العادلة، والتورط بالضّلال والحيرة متاهات الحياة.
وتشير الآية في النهاية إِلى أنّ إِصرار هؤلاء القوم من أهل الكتاب على باطلهم يجب أن لا يكون باعثاً للقلق عند النّبي، لأنّ الكثير من الناس منحرفون عن طريق الحق، أي أنّهم فاسقون، حيث تقول الآية: (وإنّ كثيراً من الناس لفاسقون).
سؤال:
يمكن أن يعترض البعض بأنّ هذه الآية توحي باحتمال صدور الإِنحراف عن النّبي (ص)، والعياذ بالله، وأن الله يحذره من ذلك، فهل أنّ هذا الأمر يتلائم ومنزلة العصمة التي يتمتع بها النّبي (ص) ؟
الجواب:
إِنّ العصمة لا تعني مطلقاً استحالة صدور الخطأ من المعصوم، ولو كان كذلك لما بقيت لهم مكرمة أو فضل، ومعنى العصمة هو أنّ النّبي (ص) والأئمّة (عليهم السلام) مع وجود احتمال صدور الذنب أو الخطأ منهم إِلاّ أنّهم لا يرتكبون الذنب أبداً وإن كان عدم ارتكاب الذنب من قبل المعصوم ناشىء عن التنبيه والتحذير والتذكير الإِلهي للمعصوم، أي أن التنبيه الإِلهي يعتبر جزءاً من عامل العصمة لدى النّبي (ص) والذي يحول دون ارتكاب الخطأ، وسنبادر إِلى توضيح موضوع العصمة لدي الأنبياء - بتفصيل أكثر - عند تفسير آية التطهير (الآية 33 من سورة الأحزاب باذن الله).
﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ﴾ عطف على الكتاب أو الحق أي أنزلنا الكتاب وأن احكم، أو أنزلناه بالحق وأن احكم ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ﴾ أن يضلوك ﴿عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ عن الحكم المنزل ﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ تنبيه على أن المجازاة بجميع الذنوب يكون في الآخرة كقوله ليذيقهم بعض الذي عملوا ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾.