سبب النّزول
نقل عن عبدالله بن عباس أنّ جماعة من اليهود جاؤوا إِلى النّبي (ص) وطلبوا منه أن يشرح لهم معتقداته، فأخبرهم النّبي (ص) أنّه يؤمن بالله الواحد الأحد، ويؤمن بأنّ كل ما نزل على إِبراهيم وإِسماعيل وإِسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وجميع الأنبياء هو الحقّ، وأنّه لا يفرق بين أنبياء الله، فأجابوه بأنّهم لا يعرفون عيسى ولا يؤمنون بنبوّته، ثمّ قالوا للنّبي (ص) أنّهم لا يعرفون ديناً أسوأ من دينه! فنزلت هاتان الآيتان ردّاً على هؤلاء الحاقدين.
التّفسير
في هذه الآية يأمر الله نبيّه (ص) أن يسأل أهل الكتاب عن سبب اعتراضهم وانتقادهم للمسلمين، وهل أنّ الإِيمان بالله الواحد الأحد والإِعتقاد بما أنزل على نبي الإِسلام والأنبياء الذين سبقوه يجابه بالإِعتراض والإِنتقاد، حيث تقول الآية: (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إِلاّ أن آمنا بالله وما أنزل إِلينا وما أنزل من قبل...) (1).
وتشير هذه الآية - أيضاً - إِلى جانب آخر من جوانب صلف ووقاحة اليهود وتطرفهم غير المبرر، ونظرتهم الضيقة الأحادية الجانب التي دفعت بهم إِلى الإِستهانة بكل شخص ودين غير أنفسهم ودينهم، وهم لتطرفهم ذلك كانوا يرون الحقّ باطلا والباطل حقّاً.
وتأتي في آخر الآية عبارة تبيّن علّة الجملة السابقة، حيث تبيّن أن اعتراض اليهود وانتقادهم للمسلمين الذين آمنوا بالله وبكتبه، ما هو إِلاّ لأنّ أكثر اليهود من الفاسقين الذين انغمسوا في الذنوب، ولذلك فهم - لإِنحرافهم وتلوثهم بالآثام - يعيبون على كل انسان ظاهر اتباعه للصواب وسيره في طريق الحقّ حيث تؤكّد الآية: (وإنّ أكثركم فاسقون).
وبديهي أنّ المقاييس في محيط موبوء بالفساد والفسق، تنقلب - أحياناً - بحيث يصبح الحقّ باطلا والباطل حقاً، ويصبح العمل الصالح والإِعتقاد النزيه شيئاً قبيحاً مثيراً للإعتراض والإِنتقاد، بينما يعتبر كل عمل قبيح شيئاً جميلا جديراً بالإِستحسان والمديح، وهذه هي طبيعة المسخ الفكري الناتج عن الإِنغماس في الخطايا والذنوب إِلى درجة الإِدمان.
وتجدر الإِشارة إِلى أنّ هذه الآية تنتقد جميع أهل الكتاب، وواضح أنّها عزلت حساب الأقلية الصالحة بدقة عن الأكثرية الآثمة باستخدام كلمة (أكثركم) في العبارة الأخيرة منها.
الآية الثّانية تقارن المعتقدات المحرفة وأعمال أهل الكتاب والعقوبات التي تشملهم بوضع المؤمنين الأبرار من المسلمين لكي يتبيّن أي الفريقين يستحق النقد والتقريع، وهذا بذاته جواب منطقي للفت انتباه المعاندين والمتطرفين في عصبيتهم.
وفي هذه المقارنة تطلب الآية من النّبي (ص) أن يسأل هؤلاء: هل أنّ الإِيمان بالله الواحد وبكتبه التي أنزلها على أنبيائه أجدر بالنقد والإِعتراض، أم الأعمال الخاطئة التي تصدر من أناس شملهم عقاب الله؟
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ﴾ تنكرون ﴿مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا﴾ من القرآن ﴿وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ﴾ إلى الأنبياء ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ عطف على.
﴿أن ءامنا﴾ أي ما تنكرون منا إلا مخالفتكم إذ دخلنا الإيمان وأنتم خارجون منه فالمستثنى لازم الأمرينر وهو المخالفة أو بحذف مضاف أي واعتقاد أن أكثركم فاسقون أو على المجرور أي ما تنقمون منا إلا إيمانا بالله وبما أنزل إلينا وبأن أكثركم فاسقون