بعد ذلك تحمل الآية الثالثة على علمائهم الذين أيّدوا قومهم على ارتكاب المعاصي بسكوتهم، فتقول: (لولا ينهاهم الرّبانيون والأحبار عن قولهم الإِثم وأكل السحت...).
وقد أشرنا سابقاً إِلى أنّ كلمة (ربّانيون) هي صيغة جمع لكلمة (ربّاني) المشتقة من كلمة (رب) وتعني العالم أو المفكر الذي يدعو الناس إِلى الله، لكنّها قد أُطلقت في كثير من الحالات على علماء المسيحيين، أي رجال الدين المسيحي.
أمّا كلمة (أحبار) فهي صيغة جمع لكلمة (حبر) وهي تعني العلماء الذين يخلفون أثاراً حسنة في المجتمع، لكنّها أُطلقت في موارد كثيرة على رجال الدين اليهود.
أمّا خلو هذه الآية من كلمة (العدوان) التي وردت في الآية قبلها، فقد استدل بعضهم من ذلك على أن كلمة (الإِثم) الواردة هنا تشمل جميع المعاني التي تدخل في إطار هذه الكلمة ومن ضمنها (العدوان).
لقد وردت في هذه الآية عبارة (قولهم الإِثم) التي تختلف عمّا ورد في الآية السابقة، ولعل هذه إِشارة إِلى أن العلماء مكلفون بردع الناس عن النطق بما يشوبه الذنب من قول، كما هم مكلّفون بمنع الناس عن ارتكاب العمل السيء، ولربّما تكون كلمة (قول) الواردة هنا بمعنى (العقيدة) أي أن العلماء الذين يهدفون إِلى اصلاح أي مجتمع فاسد، عليهم أوّلا أن يصلحوا أو يغيروا المعتقدات الفاسدة التي تشيع في هذا المجتمع، فما لم يحصل التغيير الفكري لا يمكن توقع حصول اصلاحات جذرية في الجوانب العملية، وبهذه الصورة تبيّن الآية للعلماء أنّ الثورة الفكرية هي الأساس والمنطلق لكل اصلاح يراد تحقيقه في كل مجتمع فاسد.
وفي الختام، يمارس القرآن الكريم نفس أسلوب الذم الذي إتّبعه مع أهل المعاصي الحقيقيين، فيذم العلماء الساكتين الصامتين التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقبح صمتهم هذا، كما تقول الآية: (ولبئس ما كانوا يصنعون).
وهكذا تبيّن أنّ مصير الذين يتخلون عن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العظيمة وخاصة إِن كانوا من العلماء يكون كمصير أصحاب المعاصي، وهؤلاء في الحقيقة شركاء في الذنب مع العاصين.
ونقل عن ابن عباس المفسّر المعروف قوله: بأنّ هذه الآية أعنف آية وبخت العلماء المتجاهلين لمسؤولياتهم الصامتين عن المعاصي.
وبديهي أنّ هذا الحكم لا ينحصر في علماء اليهود والنصاري، بل يشمل كل العلماء مهما كانت دياناتهم إِن هم سكتوا وصمتوا أمام تلوث مجتمعاتهم بالذنوب وتسابق الناس في الظلم والفساد، ذلك لأنّ حكم الله واحد بالنسبة لجميع البشر.
وورد عن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في إِحدى خطبه، أنّ سبب هلاك الأقوام السابقة هو ارتكابهم للمعاصي وسكوت علمائهم عليهم وامتناعهم عن النهي عن المنكر فكان ينزل عليهم - لهذا السبب - البلاء والعذاب من الله، وأن على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر لكي لا يتورطوا بمصير أُولئك الأقوام (2).
كما ورد بنفس هذا المضمون كلام للإِمام علي (ع) في (نهج البلاغة) في آخر خطبته القاصعة (الخطبة 192) قوله (ع) : "فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إِلاّ لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلعن السفهاء لركوب المعاصي والحلماء لترك التناهي...".
ويلفت الإِنتباه هنا أيضاً أنّ الآية السابقة حين كانت تتحدث عن سواد الناس جاءت بعبارة (يعملون) بينما حين صار الحديث في هذه الآية عن العلماء جاءت بعبارة (يصنعون) والصنع هو كل عمل استخدمت فيه الدقة والمهارة، بينما العمل يطلق على جميع الأفعال حتى لو كانت خالية من الدقة، هكذا فإن هذه العبارة (يصنعون) تتضمن بحدّ ذاتها ذماً أكبر، وذلك لأنّ سواد الناس إِن ارتكبوا ذنباً يكون ارتكابهم هذا - غالباً - بسبب جهلهم، بينما العالم الذي لا يؤدي واجبه فهو يرتكب إثماً عن دراية وعلم وتفكير، ولهذا يكون عقابه أشد وأعنف من عقاب الجاهل.
﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ ذم علمائهم على ترك نهيهم بأبلغ من ذمهم من حيث إن العمل أنما يسمى صنعا بعد التدرب فيه فيفيد أن ترك إنكار المعصية أقبح من ارتكابها.