سبب النّزول
روي عن الإمام أبي جعفر محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ لَيْسُوا مِنَ الْمُعَانِدِينَ الْمُتَوطِئِينَ، إِذَا لَقُوا الْمُسْلِمِينَ حَدَّثُوهُمْ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مَنْ صِفَةِ محمّد، فَنَهَاهُمْ كُبَراؤُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: لاَ تُخْبِرُوهُمْ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صَفَةِ محمّد فَيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ فَنَزَلَتْ هذِهِ الآية».
التّفسير
لا أمل في هؤلاء:
كان سياق الآيات السابقة يتجه نحو سرد تاريخ بني إسرائيل، وفي هاتين الآيتين يتجه الخطاب نحو المسلمين ويقول لهم: لا تعقدوا الآمال على هداية هؤلاء اليهود، فهم مصّرون على تحريف الحقائق ونكران ما عقلوه ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُوْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحْرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾!
وهذه عظة للمسلمين، ودفع لما قد يعتريهم من يأس نتيجة عدم استطاعتهم إقناع اليهود وجذبهم إلى الدين الجديد.
الآيتان الكريمتان توضحان أن السبب في عدم استسلام هؤلاء القوم أمام المعجزة القرآنية وسائر المعاجز النبوية الاُخرى، إنما يعود لعناد متأصل في هؤلاء ورثوه عن آبائهم الذين سمعوا كلام الله عند جبل الطور، ثم ما لبثوا أن حرّفوه بعد عودتهم.
من عبارة ﴿وَقَدْ كَانَ فَريقٌ مِنْهُمْ...﴾ نفهم أن بني إسرائيل لم يكونوا بأجمعهم محرفين، بل إن فريقاً منهم - ومن المحتمل أن يشكل عددهم أكثرية بني إسرائيل - كانوا هم المحرفين.
ورد في أسباب النّزول أن مجموعة من بني إسرائيل حين عادوا من جبل الطور قالوا: «سمعنا أن الله قال لموسى: إعملوا بأوامري قدر استطاعتكم، واتركوها متى تعذر عليكم العمل بها»! وكان ذلك أول تحريف في بني إسرائيل.
على أي حال، كان من المتوقع أن يكون اليهود أول من يؤمن بالرسالة الإِسلامية بعد إعلانها لأنهم أهل كتاب (خلافاً للمشركين)، ولأنهم قرأوا صفات النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتبهم.
لكن القرآن يوجه أنظار المسلمين إلى سوء السابقة لدى هؤلاء القوم، ويوضح لهم أن الإِنحراف النفسي يدفع إلى الإعراض عن الحقيقة، مهما كانت هذه الحقيقة واضحة بيّنة.
﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ الخطاب للنبي والمؤمنين ﴿أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ﴾ اليهود بقلوبهم ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ﴾ طائفة من أسلافهم ﴿يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ﴾ في أصل جبل طور سيناء ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ إذا أدوه إلى من وراءهم ﴿مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ فهموه بعقولهم ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم في نقولهم كاذبون فما طمعكم في سفلتهم وجهالهم.