لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
سبب النّزول تذكر التفاسير الشيعية والسنّية روايات متعددة عن سبب نزول الآية الاُولى تكاد تكون متشابهة، من ذلك أنّه جاء في تفسير "الدر المنثور" عن سعد بن أبي وقاص أنّه قال: إِنّ هذه الآية قد نزلت بشأني. كان أنصاري قد أعد طعاماً دعانا إِليه مع جمع من الناس، فتناولوا الطعام وشربوا الخمر، وكان هذا قبل تحريمها في الإِسلام، وعندما صعدت النشوة إِلى رؤوسهم أخذوا يتفاخرون وارتفع بينهم الكلام شيئاً فشيئاً حتى وصل الأمر بأحدهم أن تناول عظم بعير فضربني به على أنفي فشجه فقمت إِلى رسول الله (ص) وحكيت له ما جرى، فنزلت الآية المذكورة. وفي "مسند أحمد" و"سنن أبي داود" و"النسائي" و"الترمذي" أنّ عمر (وكان يكثر من الخمر كما جاء في تفسير "في ظلال القرآن" ج 3، ص 33) كان يدعو الله أن ينزل حكماً واضحاً في الخمر، وعندما نزلت الآية (219) من سورة البقرة (يسألونك عن الخمر والميسر...) قرأها رسول الله (ص)، ولكنّه ظل يكرر دعاءه ويطلب مزيداً من التوضيح حتى نزلت الآية (43) من سورة النساء: (يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى) فقرأها رسول الله (ص) أيضاً، غير أنّه إِستمر في دعاءه، حتى نزلت الآية التي نحن بصددها موضحة الحكم بشكل كامل، وعندما قرأها رسول الله (ص) على عمر، فقال: انتهينا انتهينا (1) ! التّفسير مراحل تحريم الخمر وحكمها النهائي: سبق أنّ ذكرنا في المجلد الثّالث من هذا التّفسير في ذيل الآية (43) من سورة النساء، إِنّ معاقرة الخمر في الجاهلية وقبيل الإِسلام كانت منتشرة إِنتشاراً أشبه بالوباء العام، حتى قيل: أنّ حبّ عرب الجاهلية كان مقصوراً على ثلاثة: الشعر والخمر والغزو. ويستفاد من بعض الرّوايات، أنّه حتى بعد تحريم الخمر فإن الإِقلاع عنها كان شاقّاً على بعض المسلمين، حتى قالوا: ما حرم علينا شيء أشد من الخمر (2) ! من الواضح أنّ الإِسلام لو أراد أن يحارب هذا البلاء الكبير الشامل بغير أن يأخذ الأوضاع النفسية والإِجتماعية بنظر الإِعتبار لتعذر الأمر وشق تطبيق التحريم، لذلك إِتخذ أسلوب التحريم التدريجي وإِعداد الأفكار والأذهان لإِقتلاع هذه الآفة من جذورها، وهي العادة التي كانت قد تأصلت في نفوسهم وعروقهم، ففي أوّل الأمر وردت إِشارات في الآيات المكية تستقبح شرب الخمر، كما في الآية (67) من سورة النحل: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً). فهنا "سكر" وتعني الشراب المسكر الذي كانوا يستخرجونه من التمر والعنب، قد وضع في قبال الرزق الحسن، فاعتبره شراباً غير طيب بخلاف الرزق الحسن، إِلاّ أنّ تلك العادة الخبيثة - عادة معاقرة الخمرة - كانت أعمق من أن تستأصل بهذه الإِشارات، ثمّ أنّ الخمر كانت تؤلف جانباً من دخلهم الإِقتصادي لذلك، عندما هاجر المسلمون إِلى المدينة وأسسوا أولى الحكومات الإِسلامية، نزلت آية ثانية أشد في تحريم الخمر من الاُولى، لكي تهيىء الأذهان أكثر إِلى التحريم النهائي، تلك هي الآية (219) من سورة البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إِثمّ كبير ومنافع للناس وإِثمهما أكبر من نفعهما). فها هنا إِشارة إِلى منافع الخمر الإِقتصادية لبعض المجتمعات، كالمجتمع الجاهلي، مصحوبة بإشارة إِلى أخطارها الكبيرة ومضارها التي تفوق كثيراً منافعها الإِقتصادية. ثمّ في الآية (43) من سورة النساء: (يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) يأمر الله المسلمين أمراً صريحاً بأن لا يقيموا الصّلاة وهم سكارى حتى دركوا ما يقولونه أمام الله. واضح أنّ هذا لم يكن يعني أنّ شرب الخمر في غير الصّلاة جايز، بل هي مسألة التدرج في تحريم الخمر مرحلة مرحلة، أي أنّ هذه الآية كأنّها تلتزم الصمت ولا تقول شيئاً صراحة في غير مواقع الصّلاة. إِنّ تقدم المسلمين في التعرف على أحكام الإِسلام واستعدادهم الفكري لإِستئصال هذه المفسدة الإِجتماعية الكبيرة التي كانت متعمقة في نفوسهم، أصبحا سبباً في نزول آية صريحة تماماً في تحريم الخمر حتى سدت الطريق أمام الذين كانوا يتصيدون الأعذار والمسوغات، وهذه الآية هي موضوع البحث. وإِنّه لمما يستلفت النظر أنّ تحريم الخمرة يعبر عنه في هذه الآية بصورة متنوعة: 1 - فالآية تبدأ بمخاطبة المؤمنين: (يا أيّها الذين آمنوا) أي أنّ عدم الصدوع بهذا الأمر لا ينسجم مع روح الإِيمان. 2 - استعمال "إِنّما" التي تعني الحصر والتوكيد. 3 - وضعت الخمر والقمار إِلى جانب الأنصاب (3) (وهي قطع أحجار لا صورة لها كانت تتخذ كالأصنام) للدلالة على أنّ الخمر والقمار لا يقلان ضرراً عن عبادة الأصنام، ولهذا جاء في حديث شريف أنّ رسول الله (ص) قال: "شارب الخمر كعابد الوثن" (4). 4 - الخمر والقمار وعبادة الأصنام، والإِستقسام والأزلام (ضرب من اليانصيب) (5) كلها قد إِعتبرها القرآن رجساً وخبثاً: (إِنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس). 5 - وهذه الأعمال القبيحة كلّها من أعمال الشيطان: (من عمل الشيطان). 6 - وأخيراً يصدر الأمر القاطع الواجب الإِتباع: (فاجتنبوه). لابدّ من التنوية بأنّ لتعبير "فاجتنبوه" مفهوماً أبعد، إِذ أنّ الإِجتناب يعني الإِبتعاد والإِنفصال وعدم الإِقتراب، ممّا يكون أشد وأقطع من مجرّد النهي عن شرب الخمر. 7 - وفي الختام يقول تعالى أن ذلك: (لعلكم تفلحون) أي لا فلاح لكم بغير ذلك. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ القمار ﴿وَالأَنصَابُ﴾ الأصنام التي نصبت للعبادة ﴿وَالأَزْلاَمُ﴾ القداح التي يستقسمون بها ﴿رِجْسٌ﴾ خبيث مستقذر ﴿مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ لأنه بتزيينه ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ أي الرجس أو التعاطي ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ باجتنابه أكد تحريم الخمر والميسر بحصرهما في الرجس وقرنهما بالأصنام والأزلام وجعلهما من عمل الشيطان والأمر باجتنابهما وجعله من الفلاح وبيان مفاسدهما في الدنيا والدين.