الآية الثّانية تشير إلى منطقهم ودليلهم على قيامهم بهذه الأعمال: (وإِذا قيل لهم تعالوا إِلى ما أنزل الله وإِلى الرّسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا).
في الواقع، كان كفرهم وعبادتهم الأصنام ينبع من نوع آخر من الوثنية، هو التسليم الأعمى للعادات الخرافية التي كان عليها أسلافهم، معتبرين ممارسات أجدادهم لها دليلا قاطعاً على صحتها، ويرد القرآن بصراحة على ذلك بقوله: (أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون).
أي لو كان أجدادكم الذين يستندون إِليهم في العقيدة والعمل من العلماء والمهتدين لكان إِتباعكم لهم إِتباع جاهل لعالم، لكنكم تعلمون أنّهم، لا يعلمون أكثر منكم ولعلهم أكثر تخلفاً منكم، ومن هنا فإنّ تقليدكم إِيّاهم تقليد جاهل لجاهل، وهو فوض ومذموم في ميزان العقل.
تركيز القرآن في هذه الآية على كلمة "أكثر" يدل على أنّه كانت في ذلك المحيط الجاهلي المظلم فئة - وإِن قلت - على قدر من الفهم بحيث تنظر بعين الإِحتقار والإِشمئزاز إِلى تلك الممارسات.
الأسلاف:
من الأُمور التي كانت سائدة في الجاهلية والتي تكررت الإِشارة إِليها في القرآن التفاخر بالآباء والأجداد وإِجلالهم إِلى حدّ التقديس الأعمى وإِتباع أفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم.
وليس هذا مقصوراً على الجاهلية الاُولى، فهو موجود بين كثير من الأقوام المعاصرة، ولعلّه أحد أسباب اشاعة الخرافات وانتقالها من جيل إِلى جيل، وكان "الموت" يضفي هالة من القدسية والإِحترام والإِجلال على الأسلاف.
لا شك أنّ روح الإِعتراف بالجميل ورعاية المبادىء الإِنسانية توجب علينا إِحترام الماضين من آبائنا وأجدادنا، ولكن لا أن نعتبرهم معصومين عن كل خطأ ومصونين عن كل نقد وتجريح لأفكارهم وسلوكهم فنتبع خرافاتهم ونقلدهم فيها تقليداً أعمى، ليس هذا في الواقع سوى لون من ألوان الوثنية والمنطق الجاهلي، إِنّنا من الممكن أن نحترم أفكارهم وتقاليدهم المفيدة، ونحطم في الوقت نفسه عاداتهم غير الصحيحة، خاصّة وأن الأجيال الحديثة أوسع علماً وأعمق معرفة من الأجيال السابقة بسبب مضي الزمن وتقدم العلم والتجربة، وما من عقل رصين يجيز تقليد الماضين تقليداً أعمى.
ومن العجيب أنْ نرى بعض العلماء وأساتذة الجامعة يعيشون هذا اللون من التقديس الأعمى لعادات السلف، فيبلغ بهم التعصب القومي إِلى التمسك بعادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان متبعين بذلك منطق العرب في جاهليتهم الاُولى.
تناقض بلا مبرّر:
جاء في تفسير "الميزان" و"الدر المنثور" عن عدد من الرواة منهم الحكيم الترمذي في "نوادر الأُصول" وعن غيره، عن أبي الأحوص عن أبيه، قال: أتيت رسول الله (ص) في خَلِقان من الثياب، فقال لي: "هل لك من مال؟" قلت: نعم، قال: "من أي المال؟" قلت: من كل المال، من الإِبل والغنم والخيل والرقيق، قال: "فإِذا أتاك الله، فلُيرَ عليك".
أي لا ينبغي أن تعيش كالمساكين مع انك صاحب ثروة.
ثمّ قال: "تنتج ابلك وافية آذانها؟" قلت: نعم وهل تنتج الإِبل إِلاّ كذلك؟ قال: "فلعلك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول: هذه بحر، وتشق آذان طائفة منها وتقول: هذه الصرم؟" قلت: نعم، قال: "فلا تفعل، إِن كل ما أتاك الله لك حل، ثمّ قال: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام" (2).
نفهم من هذه الرواية أنّهم كانوا يجمدون قسماً من أموالهم، ولكنّهم في الوقت نفسه كانوا يقتصدون في ملبسهم، بل ويبخلون فيه، وهذا نوع من التناقض الذي لا مسوغ له.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا ﴾ من الدين وتمسكهم بالتقليد دليل نقص عقلهم ﴿أَوَلَوْ﴾ همزة إنكار دخلت على واو الحال أي حسبهم ذلك ولو ﴿كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ من الحق ﴿وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ إليه.