التّفسير
كلّ اُمرىء مسؤول عن عمله:
دار الحديث في الآية السابقة حول تقليد الجاهليين آباءهم الضالين، فأنذرهم القرآن بأن تقليداً كهذا لا ينسجم مع العقل والمنطق، فمن الطبيعي أن يتبادر إِلى أذهانهم السؤال: إِنّنا إِذا كان علينا أن ننفصل عن أسلافنا في هذه الأُمور، فماذا سيكون مصيرهم؟ ثمّ إِذا نحن أقلعنا عن هذه التقاليد فما مصائر الكثير من الناس الذين ما يزالون متمسكين بها وواقعين تحت تأثيرها فكان جواب القرآن: (يا أيّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إِذا اهتديتم).
ثمّ يشير إِلى موضوع البعث والحساب ومراجعة حساب كل فرد: (إِلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون).
ردّ على اعتراض:
أثار بعضهم شبهة حول هذه الآية، فظن أنّ بين هذه الآية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وهو من التشريعات الإِسلامية الصريحة المسلم بها - ضرب من التضاد أو التناقض، إِذ أن هذه الآية تقول (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إِذا اهتديتم).
هناك أحاديث وروايات تدل على أنّ هذا الموضوع أثار شبهة حتى في عصر نزول الآية يقول (جبير بن نفيل) : كنت في جمع من أصحاب رسول الله (ص) جالسين بحضرته، وكنت أحدثهم سناً، وكان الحديث يدور حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقاطعتهم وقلت: ألم يأت في القرآن (يا أيّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إِذا اهتديتم) (أي بهذه الآية لا يبقى ما يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وإِذا بالحاضرين يجمعون على توبيخي وتقريعي قائلين: كيف تقتبس آية من القرآن دون أن تعرف معناها وتفسيرها؟ فندمت على ما قلت أشد الندم، وعادوا إِلى بحثهم السابق.
وعند انفضاض المجلس التفتوا إِلي قائلين: إِنّك شاب حدث السن، قمت بتفصيل آية من القرآن عما حولها بغير أن تعرف معناها.
وقد يطول بك العمر حتى ترى كيف يحيط البخل بالناس ويسيطر عليهم، وتسيطر عليهم أهواؤهم ويعتّد كل منهم برأيه، فلتحذر يؤمئذ من أن يضرّك من ضل منهم (أي أنّ الآية تشير إِلى ذلك الزمان).
واليوم نجد الراكنين إِلى الدعة وطلاب الراحة، عندما يدور الحديث حول القيام بهاتين الفريضتين الإِلهيتين الكبيرتين - الأمر بالعروف - والنهي عن المنكر - يتذرعون بهذه الآية ويحرفونها عن موضعها، مع أنّنا بقليل من الدقّة في النظر ندرك ألاّ تضاد بين هاتين الفريضتين وما جاء في هذه الآية:
فأوّلا: تبيّن الآية أنّ كل امرىء يحاسب على إِنفراد، وأنّ ضلال الآخرين من الأسلاف وغير الأسلاف لا يؤثر في هداية الذين اهتدوا، حتى وإِنّ كانوا قريبين قرب الأخ أو الأب أو الابن، لذلك فلا تتبعوهم وانجوا بأنفسكم (لا حظ بدقّة).
وثانياً: تشير هذه الآية إِلى الحالة التي لا يكون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي أثر، أو تكون شروط فاعليتهما غير متوفرة، ففي أمثال هذه الحالات يشعر بعض المؤمنين بالألم، ويتساءلون عمّا ينبغي لهم أن يفعلوه، فتجيبهم الآية: لا تثريب عليكم، فقد أديتم واجبكم، إذ (لا يضرّكم من ضلّ إِذا اهتديتم).
نجد هذا المعنى في الحديث الذي ذكرناه أعلاه، وكذلك في بعض الأحاديث الأُخرى فقد سئل رسول الله (ص) عن هذه الآية فقال: "إِئتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإِذا رأيت دنيا مؤثرة وشحاً مطاعاً وهوى متبعاً واعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم" (1).
وهنالك روايات أُخرى بالمضمون نفسه وتفيد هذه الحقيقة ذاتها.
فخر الدين الرازي - حسب عادته - يذكر عدة أوجه في الإِجابة على السؤال المذكورة، ولكنّها تكاد تعود كلها إِلى الأمر الذي ذكرناه، ولعله ذكرها جميعاً لبيان كثرة عددها.
على كلّ حال، لا شك أنّ مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أركان الإِسلام التي لا يمكن التغاضي عنها بأي شكل من الأشكال، ولا تسقط إِلاّ عند اليأس من تأثيرها أو من توفر شروطها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ الزموا صلاحها ونصب أنفسكم بعليكم لأنه اسم لالزموا ﴿لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ﴾ أي الضلال ﴿إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فيجازي كلا بعمله.