التّفسير
نعم الله على المسيح:
هذه الآية والآيات التّالية لها حتى آخر سورة المائدة تختص بسيرة حياة السيد المسيح (ع) والنعم التي أسبغها الله عليه وعلى أُمّته، يبيّنها الله هنا لتوعية المسلمين وايقاظهم فتقول الآية: (إِذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك).
ومعنى "إِذ قال": واذكر إِذ قال.
وحسب هذا التّفسير، تشرع هذه الآيات ببحث مستقل له جانبه التربوي للمسلمين ويرتبط بهذه الدنيا، إِلاّ أن عدداً من المفسّرين - كالطبرسي والبيضاوي وأبي الفتوح والرازي - يرون أنّ هذه الآية تابعة للآية السابقة وتتعلق بالحوار الذي يدور بين الله والأنبياء يوم القيامة، وعلى هذا يكون الفعل الماضي "قال" بمعنى "يقول" المضارع، غير أنّ هذا يخالف ظاهر الآية، خاصّة وأنّ تعداد النعم التي أنزلت على شخص ما يستهدف إحياء روح الإِعتراف بالجميل والشكر فيه، وهذا لا مكان له يوم القيامة.
ثمّ تشرع الآية بذكر النعم: (إِذ أيدتك بروح القدس).
لقد بحثنا معنى "روح القدس" في المجلد الأوّل من هذا التّفسير بحثاً مستفيضاً وأحد الإِحتمالات المقصودة هو أنّه إِشارة إِلى ملك الوحي، جبرائيل، والإحتمال الآخر هو تلك القوة الغيبية التي كانت تعين عيسى على إِظهار المعجزات وعلى تحقيق رسالته المهمّة، وهذا المعنى موجود في غير الأنبياء أيضاً بدرجة أضعف.
من نعم الله الأُخرى: (تكلم الناس في المهد وكهلا) أي أنّ كلامك في المهد، مثل كلامك وأنت كهل، كلام ناضج ومحسوب، لا كلام طفل غر.
ثمّ أيضاً: (وإِذا علمتك الكتاب والحكمة والتّوراة والإِنجيل) إِنّ ذكر التّوراة والإِنجيل بعد ذكر كلمة كتاب مع أنّهما من الكتب السماوية، إِنّما هو من باب التفصيل بعد الإِجمال.
ومن النعم الأُخرى: (وإِذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً باذني).
ومع ذلك فإِنّك تشفي بإذن الله الأعمى بالولادة والمصاب بالمرض الجلدي البرص: (وتبرىء الأكمه والأبرص باذني).
ثمّ (وإِذ تخرج الموتى باذني).
وأخيراً كان من نعمي عليك بأن منعت عنك أذي بني إِسرائيل يوم قام الكافرون منهم بوجهك ووسموا ما تفعل بأنّه السحر، فدفعت أذى أُولئك المعاندين اللجوجين عنك وحفظتك حتى تسير بدعوتك: (وإِذ كففت بني إِسرائيل عنك إِذ جئتهم بالبيانات فقال الذين كفروا منهم إِن هذا إِلاّ سحر مبين).
يستلفت النظر في هذه الآية أنّها تكرر "باذني" أربع مرات لكيلا يبقى مكان للغلو في المسيح (ع) وادعاء الألوهية له، أي أنّ ما كان يحققه المسيح (ع) بالرغم من إِعجازه وإِثارته الدهشة ومشابهته للأفعال الإِلهية، لم يكن ناشئاً منه، بل كان من الله وباذنه، فما كان عيسى سوى عبد من عبيد الله، مطيع لأوامره، وما كان له إِلاّ ما يستمده من قوة الله الخالدة.
وقد يسأل سائل: إِنّ كانت هذه النعم كلها قد أسبغت على عيسى (ع) فلماذا تعتبر الآية هذه النعم قد أسبغت على أُمّه أيضاً؟
لا شك أنّ كل موهبة تصل الابن تكون قد وصلت الأُم أيضاً، فكلاهما من اصل واحد، ومن شجرة واحدة.
وكما ذكرنا في ذيل الآية (49) من سورة آل عمران، فإن هذه الآية والآيات المشابهة دلائل على ولاية أولياء الله التكوينية، ففي تاريخ حياة المسيح (ع) ينسب إِليه إِحياء الموتى وإِبراء الأكمه والأبرص، ولكن بأمر الله وإِذنه.
يتّضح من هذا أنّ من الممكن أن ينعم الله على من يشاء قدرة كهذه تمكنه من التصرف بعالم التكوين والقيام بأمثال هذه الأعمال أحياناً، إِنّ تفسير هذه الآية بأنّها تشير إِلى دعاء الأنبياء وإستجابة الله لدعائهم هو خلاف ظاهر الآية، وأنّ ما نقصده بولاية أولياء الله التكوينية هو هذا الذي قلناه آنفاً، إِذ ليس ثمّة دليل على أكثر من هذا المقدار (انظر تفسير سورة آل عمران الآية (49) لمزيد من التوضيح).
﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ جبرئيل أو ملك أعظم منه أو روحك المطهرة من الأدناس ﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ طفلا ﴿وَكَهْلاً﴾ بلا تفاوت في كمال العقل ﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي﴾ فسر في آل عمران ﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ اليهود ﴿عَنكَ﴾ عن قتلك ﴿إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ المعجزات ﴿فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ﴾ ما ﴿هَذَا﴾ الذي جئت به ﴿إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾.