التّفسير
الفوز العظيم:
بعد الحوار الذي جرى بين الله والمسيح (ع) يوم القيامة - كما شرحناه في تفسير الآيات السابقة - تقول الآية (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم).
طبيعي أنّ المقصود من هذا هو أنّ الصدق في القول والعمل في هذه الدنيا هو الذي ينفع في الآخرة، لأن الصدق في الآخرة - التي لا تكليف فيها - لا ينفع شيئاً ثمّ أنّ الوضع في تلك الحياة مختلف بحيث لا يستطيع أحد إِلاّ أن يقول الصدق، حتى المذنبون يعترفون بسيئات ما عملوا، وعلى هذا فلا وجود للكذب يوم القيامة.
وعليه، فإنّ الذين أنجزوا ما كلّفوا من مسؤولية ورسالة ولم يسيروا إِلاّ في طريق الصدق، مثل المسيح (ع) وأتباعه الصادقين، أو أتباع سائر الأنبياء الآخرين الذين التزموا الصدق سينالون ثوابهم.
يتّضح لنا من هذا بأنّ جميع الأعمال الصالحات يمكن أن تنطوي تحت عنوان الصدق في القول والفعل، وأنّه الرصيد الذي ينفع يوم القيامة لا غير.
وهؤلاء الصادقون: (لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) وخير من هذه النعمة المادية أنّهم: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) ولا شك أنّ هذه النعمة الكبرى التي تجمع بين النعم المادية والنعم المعنوية شيء عظيم: (ذلك الفوز العظيم).
يلفت النظر أنّ الآية، بعد ذكر بساتين الجنّة ونعمها الكثيرة، تذكر نعمة رضى الله عن عباده، ورضى عباده عنه وتصف ذلك بأنّه الفوز العظيم، وهذا يدل على مدى أهمية هذا الرضى المتبادل، فقد يكون أمرؤ غارقاً في أرفع نعم الله، ولكنّه إِذا أحس بأنّ مولاه ومعبوده ومحبوبه ليس راضياً عنه، فإن جميع تلك النعم والهبات تصير علقماً في ذائقة روحه.
كما يمكن أن يتوفر لأمرىء كل شيء، ولكنه لا يكون راضياً ولا قانعاً بما عنده، فمن الواضح أنّ هذه النعم بأجمعها غير قادرة على إِسعاد تلك الروح، بل تكون دائماً معرضة لعذاب قلق غامض واضطراب نفسي مستمر يقضيان على الراحة النفسية التي هي من أعظم نعم الله.
ثمّ إِذا كان الله راضياً عن أمرىء فإنّه يعطيه كل ما يريد، فإذا أعطاه كل ما يريد فإنّه يكون راضيا عن ربّه أيضاً، من هنا فإنّ أعظم النعم هي أن يرضى الله عن الإِنسان ويرضى الإِنسان عن ربّه.
﴿ قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ﴾ بعملهم ﴿وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ بثوابه ﴿ذَلِكَ﴾ أي ما عدد من النفع هو ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ إذ فيه سعادة الأبد.